سلسلة العهود المحمدية| المقال الأول| ترجمة الإمام الشعراني- حياته الشخصية والعلمية| د. محمود المصري

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي أفاض على أوليائه من سنا أنواره القدسيَّة، والصلاة والسلام الأتمّان الأكملان على صاحب العهود المحمَّديَّة، وعلى آله وأصحابه ذوي المراتب العليَّة، وعلى من سلكَ مسلكهم وعلينا معهم يا ربّ البريَّة.

كان الإمام عبدُ الوهّابِ بنِ أحمدَ الشعراني الشافعيِّ الأشعريِّ الشاذليِّ المصري رحمه الله أنموذجًا مثاليًّا في عصره للتصوُّف بمعانيه المنبثقة عن مقام الإحسان، وسلوكيّاته المنبعثة من مقام الإيمان، وتعاملاته المنضبطة بمقام الإسلام. وكان الإمام الشعراني رحمه الله مثالاً للتقوى والزهد والورع إلى جانب خدمة المسلمين والنصح لهم وإنصافهم من حكامهم.

يعَدُّ الإمام الشعراني رحمه الله من العلماء العاملين الأفذاذ الذين قرّبوا التصوف للناس، وجمعوا بينه وبين العقيدة السليمة، واهتمّوا بالجانب السلوكي والأخلاقي منه على وجه الخصوص، مع عدم إهمال الجانب الذوقي.

لقد أراد أن يُبعد عن أذهان الناس ما علِق بها من أوهام وخرافات عن التصوف وأن يعيدَه إلى صفائه كما كان في زمن السلف الصالح رضي الله عنهم. كذلك أراد أن يبدِّد ما علق بالأذهان من شبهات نتجت عن اختلاف أقوال العلماء في مجال الفقه والعقيدة والتصوف، وأن يبين أن اختلاف الأقوال ليس تناقضًا ولا إشكالاً، إنما هو ثراءٌ معرفيٌّ؛ بل هو أمرٌ مطلوبٌ أراده الله تعالى ليميِّزَ به الأمة، ويكونَ دليلاً على ما آتاه الله لعلماء الأمة من فكرٍ ثاقبٍ وإلهامٍ معرفيٍّ يخرجها عن كونها أمّةً نصوصيةً كمن سبقها من الأمم، ويفسحَ المجال للتسهيل على الناس والتسامحِ بين العلماء في اختلاف فهم النص، من باب أن اختلاف الأئمة هو رحمة بالأمة.

ثم من جهة أخرى فإن كثيرًا من هذه الاختلافات يمكن الجمع بينها، وتنتهي بأن الخلاف لفظيٌّ في كثيرٍ من الأحيانِ. فالشعراني رحمه الله بيّن ذلك في كتبه أنصعَ بيانٍ شأنه شأنُ العلماء الكبار العارفين.

إن هذه الصفات والمواهب العظيمة لدى الإمام جعلت تلميذه الإمام عبد الرؤوف المناوي يصفه بقوله: “له دراية بأقوال السلف ومذاهب الخلف، كان مواظبًا على السنة، مخالفًا للبدعة، مبالغًا في الورع”[1].

  • أولا: مولد الإمام الشعراني ونسَبه ونشأته ووفاته:

نشأ الشعراني في بيئة علمية صوفية أسهمت في تكوين شخصيته الاجتماعية والعلمية وبلورتها. ولد سنة ثمان وتسعين وثمانمئة، ويُنسب إلى قرية أبيه (ساقية أبي شعرة) في المنوفية على نهر النيل بمصر، لذلك لُقِّب بالشعراني. وينتهي نسبه إلى الإمام محمد بن الحنفية.

نشأ الإمام الشعراني يتيم الأم والأب، فعانى في نشأته من ضيق ذات اليد، وكان أخوه الشيخ عبد القادر يتولاه ويرعاه أحسن رعاية، ويؤدِّبه خير تأديب.

وقد حدّثنا الشعراني عن نشأته في كتابه لطائف المنن فقال: (ومما منَّ الله تبارك وتعالى به عليّ وأنا صغير ببلاد الريف حفظُ القرآن وأنا ابن ثماني سنين، وواظبت على الصلوات الخمس في أوقاتها من ذلك الوقت.. ومما أنعم الله تبارك وتعالى به علي: حفظ متون الكتب، فحفظت أولا أبا شجاع، ثم الآجُرُّومية) [2].

التقى وهو صغير بالحافظ الإمام جلال الدين السيوطي، الذي أُعجب بنجابته وألبسه الخرقة، ولم يتجاوز الثالثة عشرة من عمره. وفي هذا العام التحق الشعراني بالأزهر الشريف، ومكث على الدرس في الأزهر خمسَ سنوات[3].

ومن الجدير بالذكر أن شيوخ العلم الذين أخذ عنهم كانوا من العلماء العاملين الصوفية، وإن كانت شهرتهم بالعلم أكثر، وهذا كان له الأثر الكبير عليه، إذ رضع منهم لِبان التصوف مع تلقي العلم. وكان الشيخ أمين الدين إمام جامع الغَمري من أهم أولئك الذين استفاد منهم، وكذلك شيخه علي الشُّوني الذي أشار عليه بترتيب مجلس الصلاة على النبي  ﷺ في جامع الغمري[4]. غير أن ذلك لم يقطعه عن التردُّد للأزهر الذي كان له الفضل في نبوغه في العلوم الشرعية والعقلية واللسانية، وكان يذكر ذلك كثيرًا.

وبعد جامع الغمري انتقل إلى مدرسة أم خوند، وألَّف فيها كثيرًا من كتبه لا سيما في التصوف، واستمر فيها سبع سنوات، ثم انتقل إلى زاويته بعد أن اكتمل بناؤها، وبقي فيها إلى أن توفي سنة ثلاث وسبعين وتسمعئة، وحمُل إلى الجامع الأزهر في مشهد من العلماء والفقهاء والأمراء والفقراء، حيث صلُّوا عليه ودُفن بجوار زاويته[5].

 

  • ثانيا: الجوانب العلمية في حياة الشعراني:

كان الشعراني منكبًّا على تحصيل العلم بصورة قلَّ نظيرها، يقول الشعراني في لطائف المنن: (وكان ذهني بحمد الله سيالا لا يسمع شيئا وينساه. وقال له شيخَه الرملي: بدايتك نهاية غيرك، فإني ما رأيت أحدا تيسَّر له مطالعة هذه الكتب كلِّها في هذا الزمان) [6].

اجتمع الشعراني في الأزهر بأجلَّة شيوخ عصره، وقد أورد ذكر شيوخِه الذين أخذ عنهم العلم في كتابه “الطبقات الكبرى”، وكان يذكرهم بالتعظيم والاحترام، وقد بلغ عددهم نحوًا من خمسين. ومن هؤلاء الشيوخ الأعلام الذين تتلمذ عليهم في العلم: الإمام الحافظ المفسر جلال الدين عبد الرحمن السيوطي، ومنهم شيخ الإسلام الشيخ زكريا الأنصاري الذي تتلمذ عليه لسنين طويلة ناهزت خمس عشرة سنة، وأذن له بالتدريس[7]، ومنهم الشيخ أمين الدين الإمام المحدث بجامع الغمري، ومنهم الشيخ الإمام العلامة شمس الدين الدواخلي الفقيه الصوفي الأصولي، الذي قال له: (لولا أنك تثبت لي عن طريق تلخيصك الكتب التي تشير إليها ما صدَّقتك في أنك اطلعت على بعضها) [8].

ومن شيوخه: الإمام القسطلاني شارح البخاري، والإمام المتقي الهندي صاحب كنز العمال، والإمام شهاب الدين الرملي وناصر الدين اللقاني المالكي، الذي كان إذا ما زاره الشعراني في الأزهر يقوم له ويجلسه مكانه، ويجلس بين يديه جلسة المتعلم. وغيرهمُ كثير.

ولما اكتمل تأسيسه العلمي صار يلتفُّ حوله الطلبة في زاويته، وكان يكفيهم حاجاتهم في كلِّ أصناف العلوم لسعة تحصيله كما عرفنا، وكان بعض شيوخه يزورونه في زاويته، فيستحي منهم أشد الحياء، ولا يرغب في ذلك[9].

أما تلامذته فمنهم: الإمام الكبير عبد الرؤوف المُنَاوي، والإمام العلامة شهاب الدين أحمد الكلبي المالكي، والإمام محمد حجازي القلقشندي الواعظ.[10]

المصادر والمراجع:

·       التصوف الإسلامي والإمام الشعراني، لطه عبد الباقي سرور، دار نهضة مصر للطباعة والنشر، ط1، 20116م.

·       الطبقات الكبرى المسمى لواقح الأنوار القدسية في مناقب العلماء والصوفية، لعبد الوهاب الشعراني، مكتبة الثقافة الدينية، 2005م.

·       عبد الوعاب الشعراني إمام القرن العاشر، لعبد الحفيظ فرغلي علي القرني، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1985م.

·       الكواكب الدرية في تراجم السادة الصوفية، لعبد الرؤوف المناوي، ت أحمد فريد المزيدي، دار الكتب العلمية، بيروت.

·       الكواكب السائرة بأعيان المئة العاشرة، لنجم الدين محمد بن محمد الغزي (ت: 1061هـ)، خليل المنصور، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1977م.

·       لطائف المنن والأخلاق في وجوب التحدث بنعمة الله على الإطلاق، لعبد الوهاب الشعراني، اعتنى به أحمد عزو عناية، دار التقوى، 2004م.

·       المناقب الكبرى، لمحمد محي الدين المليجي، مطبعة أمين عبد الرحمن، القاهرة، 1932م.

 

 


[1] الكواكب الدرية للمناوي 2/ 482.

[2] لطائف المنن للشعراني 66.

[3] انظر مناقشة ذلك في كتاب: عبد الوهاب الشعراني إمام القرن العاشر لفرغلي 32.

[4] الطبقات الكبرى 2/ 302.

[5] انظر لطائف المنن 67، والكواكب السائرة 3/ 157 وما بعد، والمناقب الكبرى 38، التصوف الإسلامي والإمام الشعراني 23.

[6] انظر لطائف المنن للشعراني 75.

[7] المصدر السابق 80.

[8] المصدر السابق 71.

[9] المصدر السابق 186.

[10] انظر لطائف المنن 68-75، الكواكب السائرة بأعيان المئة العاشرة 3/ 158.