سلسلة دروس فقه السيرة النبوية| الدرس السادس والأربعون| فتح مكة (1)

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد.

اعترفت قريش بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم كزعيم دولةٍ، ذات أهمية، فعقدت معه صلح الحديبية، وجاء موعد عمرة القضاء، فزلزل مشهد المسلمين قريشاً، وأخذوا يقارنون بين الشعائر، التي يؤديها المسلمون في تدبر وخشوع، وبين ما يفعلونه هم في عبادتهم من لغوٍ، لا يقبل به عقل.

 ولم تمض على الصلح سنتان حتى نقضت قريش عهدها بإعانتهم حلفاءهم بني بكر على بني خزاعة حلفاء المسلمين، فبيتوهم على ماء لهم اسمه الوتير، وقتلوا منهم عشرين رجلاً خارج الحرم وداخله، فَأَخْبَرَ زعيمُهم عمرو بن سالم النبيَّ بما جرى لهم، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: «نصرت يا عمرُو بنَ سالم» [1]، وكانت فرصةً ذهبية لفتح مكة؛ لأن الاعتداء على من حالف المسلمين يعتبر نقضاً للعهد.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم  لأصحابه:«كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم؛ ليشد في العقد، ويزيد في المدة» [2]، وفعلاً جاء أبو سفيان، فنزل على ابنته أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم مستشفعاً بها، فتلقى منها إهانةً مريرةً حين منعته أن يقعد على فراش رسول الله قائلة: (إنك مشرك نجس) [3].

ولا غرابة في ذلك، فهي بهذا تطبق أحكام الشريعة في الولاء والبراء، وأبو سفيان في تلك الفترة كان يعتبر مجرم حرب، أليس هو الذي مَثَّلَ يوم أحد بسيد الشهداء حمزة حين كان يضرب بزج الرمح في فمه ويقول ذق عقق؟ [4].

فدخل المسجد، وكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يرد عليه، فكانت أشد إهانةً من الأولى وأنكى، فراح يستشفع بكبار الصحابة أبي بكر وعمر وعلي وفاطمة الزهراء حتى بابنها الحسن، الذي لا زال يدب على الأرض، فلم يفعلوا، فقال: يا علي انصحني، قال علي: إنك سيد بني كنانة؛ فقم فأجر بين الناس، فوقف على باب المسجد، وصرخ بانفعال: (أيها الناس، إني قد أجرت بين الناس) [5]، وكر راجعاً من حيث أتى، وهو يتجرع مرارة الذل، وراح مع قومه يترقبون ما سيحصل؛ جزاء غدرهم بقلوب واجفة.

فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى قبائل أسلم وغفار ومزينة، وجهينة وغيرهم: فأخذت القبائل تتوافد إلى المدينة، فلما اجتمع الناس أعلمهم بمقصده، ودعا الله قائلاً: «اللهم خذ على أبصار قريش؛ فلا يروني إلا بغتة وَلَا يَسْمَعُوا بِنَا إِلَّا فَجْأَةً» [6]، وهذا يدل على أنه يجوز لإمام المسلمين أن يفاجئ العدو، الذي نقض العهد بالإغارة عليهم دون إنذار باتفاق عامة العلماء.

أما بمجرد خوف الخيانة، فلا يجوز للإمام أن يباغتهم بالحرب، دون إعلامهم بذلك أولاً.

كما يجوز اعتبار مباشرة البعض لنقض العهد دون استنكار معتبر من الباقين بمثابة مباشرة الجميع لذلك.

وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على مداخل المدينة حراساً؛ فلا يسمحون لأحد ينكرونه بالدخول إليها، أو بالخروج منها.

وراسل حاطب بن أبي بلتعة قريشاً بما عزم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم!! واستأجر لذلك امرأة، فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم الخبرُ من السماء، فقال لعلي وَالزُّبَيْر، وَالمِقْدَاد: «انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ، فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً مَعَهَا كِتَابٌ، فَخُذُوا مِنْهَا» [7]، فَأتوا الروضة، والظَّعِينَةِ فيها، فسألوها الكتاب: فأنكرت، فهددوها؛ فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا، فَأَتَوا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: «يَا حَاطِبُ، مَا هَذَا؟» [8]، فاعتذر بأنه صانَعَ قريشا؛ً ليحموا قرابته في مكة، وَلَمْ يفعله ارتداداً عن الإسلام، فصدقه النبي عليه الصلاة والسلام، وعفا عنه، وأقال عثرته؛ لماضيه المجيد، وجهاده لإعزاز دين الله، وشهوده بدراً، وقد اجتهد فأخطأ.

  • وفي قصة حاطب دلالات:
  • منها: استدل البعض بتهديد الظعينة على جواز تعذيب المتهم ليعترف، وهو خطأ؛ لأن المتهم بريء حتى يدان، والظعينة ليست متهمة، بل مدانةً بوحي الله لنبيه المعتبرِ أقوى من اعترافها، وعليه الأئمة الأربعة.
  • ومنها: أنه لا يجوز للمسلمين أن يتخذوا من أعداء الله تعالى أولياء في أي ظرف كان.
  • ومنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤيد بالمعجزات وما أكثرها في فتح مكة.

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

_____________________________________

[1]: السنن الكبرى البيهقي (9/ 390، رقم 18859)، السِّيرةُ النَّبَويَّةُ الصَّحيْحَةُ (2/ 374).

[2]: شرح معاني الآثار (3/ 315، رقم 5446).

[3]: السيرة النبوية لابن هشام (2/ 396)، وابن كثير في البداية والنهاية (4/ 280).

[4]: السيرة النبوية لابن هشام (4/ 42)، البداية والنهاية (4/ 38).

[5]: البيهقي في دلائل النبوة (5/ 5)، عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير.

[6]: البداية والنهاية (4/ 282)، البيهقي في دلائل النبوة (5/ 11).

[7]: صحيح البخاري (3/ 1095 رقم 2845). ومسلم (7/ 168 رقم 6485).

[8]: صحيح البخاري (3/ 1095 رقم 2845). ومسلم (7/ 168 رقم 6485).