هل يُستجاب دعاء أحد الوالدين عليَّ بالشر بغير وجه حق في حالة الغضب؟

 يجيب عن السؤال الشيخ عبد السميع ياقتي

السؤال

هل يُستجاب دعاء أحد الوالدين عليَّ بالشر بغير وجه حق في حالة الغضب؟

الجواب

الحمد لله و الصلاة و السلام على سيدنا محمد رسول الله و على آله و صحبه و من والاه ، و بعد :

من رحمة الله بعباده أنه لا يستجيب لهم دعاءهم بالشر على أنفسهم أو أولادهم أو أموالهم و غير ذلك في ساعة الغضب، كما ذكر ذلك في قوله : ﴿وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ﴾ [يونس 11]، و لكن يجب على الأولاد تجنب كل ما من شأنه أن يُغضب الوالدين ، و كذلك ينبغي على الوالدين تجنب الدعاء بالشر على النفس و الأولاد ، لورود النهي عن ذلك من النبي صلى الله عليه و سلم ، و لأنه قد يوافق ساعة إجابة ، و الله أعلم

البيان و التفصيل :

«الدُّعَاءُ مُخُّ العِبَادَةِ» كما قال صلى الله عليه و سلم (1) ، و لذلك أمر الله به عباده المؤمنين و وعدهم بالإجابة عليه، كما قال :﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ  ﴾ [غافر 60]
و هذه الإجابة حاصلة لا محالة بوعد الله تعالى ، خاصة إذا تحقق العبد بآداب الدعاء و شروطه فيستجيب الله له، فيعطيه مثل ما سأل، أو يصرف عنه من السوء بمثل ما دعا به، أو يدخر له الأجر إلى يوم القيامة، كما قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ” مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ، وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ دَعْوَتَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُفَّ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا قَالُوا: إِذًا نُكْثِرُ قَالَ: اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَكْثَرُ “(2)

على خلاف ما إذا لم يلتزم العبد بآداب الدعاء و شروطه ؛ فلا يُستجاب له، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (لَا يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ، مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ، مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا الِاسْتِعْجَالُ؟ قَالَ: يَقُولُ: قَدْ دَعَوْتُ وَقَدْ دَعَوْتُ، فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لِي، فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ وَيَدَعُ الدُّعَاءَ).(3)

– و من رحمة الله بعباده أنه لا يستجيب لهم بعض الأدعية التي فيها إثم و شر ، كدعاء الرجل على نفسه أو أهله أو أولاده أو ماله أو غير ذلك ، في وقت الغضب، يقول الله عز وجل : ﴿وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ﴾ [يونس 11]
و كما في قوله أيضاً : ﴿وَيَدْعُ الإنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولا ﴾ [الإسراء 11]

– يقول الإمام القرطبي في تفسيره : ( قَوْلُهُ تَعَالَى: “وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ” قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: هُوَ دُعَاءُ الرَّجُلِ عَلَى نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ عِنْدَ الضَّجَرِ بِمَا لَا يُحِبُّ أَنْ يُسْتَجَابَ لَهُ: اللَّهُمَّ أَهْلِكْهُ، وَنَحْوُهُ. (دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ) أَيْ كَدُعَائِهِ رَبَّهُ أَنْ يَهَبَ لَهُ الْعَافِيَةَ، فَلَوِ اسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِالشَّرِّ هَلَكَ ، لَكِنْ بِفَضْلِهِ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ فِي ذَلِكَ. نَظِيرُهُ:” وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ” وَقَدْ تَقَدَّمَ )(4)
– و قال ابن كثير:( يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ حلمه، ولطفه بعباده أنه لا يستجيب لهم إِذَا دَعَوْا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، أَوْ أَمْوَالِهِمْ، أَوْ أَوْلَادِهِمْ فِي حَالِ ضَجَرِهِمْ وَغَضَبِهِمْ، وَأَنَّهُ يَعْلَمُ منهم عدم القصد بالشر إِلَى إِرَادَةِ ذَلِكَ، فَلِهَذَا لَا يَسْتَجِيبُ لَهُمْ – وَالْحَالَةُ هَذِهِ – لُطْفًا وَرَحْمَةً، كَمَا يَسْتَجِيبُ لَهُمْ إذا دعوا لأنفسهم، أو لأموالهم، أو لأولادهم بِالْخَيْرِ، وَالْبَرَكَةِ، وَالنَّمَاءِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ـ الآية، أي لو استجاب لهم كلما دَعَوْهُ بِهِ فِي ذَلِكَ لَأَهْلَكَهُمْ، وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي الْإِكْثَارُ مِنْ ذَلِكَ. ) (5)

– فهذا هو الأصل في الدعاء بالشر أن الله لا يستجيب له ؛ إلا في بعض الحالات الخاصة التي وردت في بعض الأحاديث، كما إذا وافق الدعاء بالشر على النفس أو الأولاد أو المال أو غير ذلك ساعة إجابة ، فإنه يقع و لذلك نهى النبي صلى الله عليه و سلم عنه ، فعن جابر – رضي الله عنه – أنه قَالَ: قَالَ رسُولُ الله – صلى الله عليه وسلم: «لا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ؛ وَلَا تَدعُوا عَلَى أوْلادِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أموَالِكُمْ، لا تُوافِقُوا مِنَ اللهِ سَاعَةً يُسألُ فِيهَا عَطَاءً فَيَسْتَجِيبَ لَكُمْ». رواه مسلم. (6)

– و قد ذهب بعض العلماء إلى أنه يستجاب دعوة أحد الوالدين على أولادهم و إن كان ظالماً

مستدلين بعموم الأحاديث في أن دعوة الوالد مستجابة. و بحديث جريج العابد ، وفيه: (فَأَتَتْهُ أُمُّهُ وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ فَقَالَ: يَا رَبِّ أُمِّي وَصَلَاتِي، فَأَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ، فَانْصَرَفَتْ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أَتَتْهُ وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ فَقَالَ: يَا رَبِّ أُمِّي وَصَلَاتِي، فَأَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ، فَانْصَرَفَتْ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أَتَتْهُ وَهُوَ يُصَلِّي فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ أُمِّي وَصَلَاتِي، فَأَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ، فَقَالَتْ: اللهُمَّ لَا تُمِتْهُ حَتَّى يَنْظُرَ إِلَى وُجُوهِ الْمُومِسَاتِ).(7)
– يقول ابن رجب الحنبلي -في تعليقه على هذا الحديث- : ( وفي الحديث: دليل على استجابة دعاء الأم على ولدها.قال بعض السلف: يستجاب دعاؤها عليه، وإن كانت ظالمة ، وفي حديث أبي هريرة المرفوع: “ثلاث دعوات تستجاب، لاشك فيهن – فذكر منها- ودعوة الوالدين على ولدهما” .وعن ابن مسعود، قال: ثلاث لا ترد دعوتهم: الوالد، والمظلوم، والمسافر.)(8).

– لكن الإمام النووي رد هذا القول، و بين أن أمه لم تكن ظالمة في دعائها عليه ؛ فاستجاب الله لها ، و هذا دليل على أن الحق كان معها ، يقول : ( قَالَ الْعُلَمَاءُ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ الصَّوَابُ فِي حَقِّهِ إِجَابَتَهَا لِأَنَّهُ كَانَ فِي صَلَاةِ نَفْلٍ وَالِاسْتِمْرَارُ فِيهَا تَطَوُّعٌ لَا وَاجِبٌ وَإِجَابَةُ الْأُمِّ وَبِرُّهَا وَاجِبٌ وَعُقُوقُهَا حَرَامٌ وَكَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُخَفِّفَ الصَّلَاةَ وَيُجِيبَهَا ثُمَّ يَعُودَ لِصَلَاتِهِ ) (9)

 

بناء على ما سبق :

اعلم أخي الشاب أن دعاء أحد الوالدين عليك بالشر لا يستجاب- و الله أعلم-  إلا إذا وافق ساعة إجابة أو كان الولد عاقاً ظالماً و العياذ بالله ، و إذا قدّرَ الله و استجاب دعوةَ أحد الوالدين و كان ظالماً فإنما يكون ذلك من باب الابتلاء ، و يؤجر عليه الولد إن صبر بإذن الله
ونصيحة لك أيها السائل و لكل الشباب بأن لا تضعوا أنفسكم في مثل هذه الظروف التي تُغضب الوالدين و أن تحرصوا كل الحرص على طاعة الوالدين و البر بهما أقصى درجات البر ، تجنباً لمثل هذه الدعوات ، و الله تعالى يتولى هداكم و رعايتكم

 

المصادر و المراجع :

1- سنن الترمذي رقم الحديث (3371) ، [5\456]
2- رواه الإمام أحمد في مسنده رقم ( 11133) ، [17\213]
3- صحيح مسلم : رقم الحديث (2735)، [8\87]
4- الجامع لأحكام القرآن للإمام القرطبي ، دار الكتب المصرية – القاهرة ،ط 2 ،  [10\225]

5-  تفسير القرآن العظيم للإمام ابن كثير الدمشقي ، دار طيبة للنشر والتوزيع ، ط2 ،[4\251]
6- صحيح مسلم : رقم ( 3009) ، [ 8\233] .

7- صحيح البخاري : رقم (1206) [2\63]، و صحيح مسلم : رقم (2550)
8- كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري للإمام ابن رجب الحنبلي ،مكتبة الغرباء الأثرية – المدينة المنورة ، ط 1، [9\320]
9- كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج للإمام النووي، دار إحياء التراث العربي – بيروت ط 2 ،[16\105]