هل حقاً عبد الله بن مسعود كان لا يعد المعوذتين من القرآن؟

يجيب عن السؤال الشيخ أنس الموسى

السؤال

 هل حقاً عبد الله بن مسعود كان لا يعد المعوذتين من القرآن؟

الجواب

                                                بسم الله الرحمن الرحيم
لعل السائل يقصد ما رواه الإمام أحمد وغيره في مسنده عن زر بن حبيش قَالَ: ” قُلْتُ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: إِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ ‌لَا ‌يَكْتُبُ ‌الْمُعَوِّذَتَيْنِ فِي مُصْحَفِهِ، فَقَالَ: “أَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَنِي: “أَنَّ جِبْرِيلَ قَالَ لَهُ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، فَقُلْتُهَا، فَقَالَ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، فَقُلْتُهَا “. فَنَحْنُ نَقُولُ مَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ”. (1)
وفي رواية ابن حبان: “عنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ قَالَ: لَقِيتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ، فَقُلْتُ لَهُ إِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ ‌يَحُكُّ ‌الْمُعَوِّذَتَيْنِ مِنَ الْمَصَاحِفِ، وَيَقُولُ إِنَّهُمَا لَيْسَتَا مِنَ الْقُرْآنِ فَلَا تَجْعَلُوا فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ. قَالَ أُبَيٌّ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقَالَ لَنَا، فَنَحْنُ نَقُولُ”. (2)
ملحوظة: أبيّ بن كعب هو أحد الّذين أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يؤخذ عنهم القرآن كما جاء عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: كُنَّا نَأْتِي عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو، فَنَتَحَدَّثُ عِنْدَهُ، فَذَكَرْنَا يَوْمًا عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ، فَقَالَ: لَقَدْ ذَكَرْتُمْ رَجُلًا لَا أَزَالُ أُحِبُّهُ مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ” ‌خُذُوا ‌الْقُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ: مِنَ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ – فَبَدَأَ بِهِ – وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ “. (3) فكان أُبي بن كعب من المقدّمين في القرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإليه تنتهي بعض أسانيد القراءات.
وللعلماء في تفسير كلام وفعل ابن مسعود أقوالٌ كثيرة منها:
أولاً:  ذهب جمعٌ من العلماء إلى تكذيب ما روي عن ابن مسعود وبطلانه، ومنهم:
ابن حزم الظاهري، الذي قال: ” وَأَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي فِي الْمَصَاحِفِ بِأَيْدِي الْمُسْلِمِينَ شَرْقًا وَغَرْبًا فَمَا بَيْنَ ذَلِكَ مِنْ أَوَّلِ أُمِّ الْقُرْآنِ إلَى آخِرِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ كَلَامُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَوَحْيُهُ أَنْزَلَهُ عَلَى قَلْبِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مَنْ كَفَرَ بِحَرْفٍ مِنْهُ فَهُوَ كَافِرٌ. قَالَ تَعَالَى: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] وَقَالَ تَعَالَى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [الشعراء: 193] {عَلَى قَلْبِكَ} [الشعراء: 194] وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الشورى: 7] . وَكُلُّ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ‌مِنْ ‌أَنَّ ‌الْمُعَوِّذَتَيْنِ ‌وَأُمَّ ‌الْقُرْآنِ لَمْ تَكُنْ فِي مُصْحَفِهِ فَكَذِبٌ مَوْضُوعٌ لَا يَصِحُّ؛ وَإِنَّمَا صَحَّتْ عَنْهُ قِرَاءَةُ عَاصِمٍ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَفِيهَا أُمُّ الْقُرْآنِ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ”. (4)
ومنهم الإمام النووي، الذي قال:  “أجمع المسلمون على أن المعوذتين والفاتحة وسائر السُّور المكتوبة في المصحف قُرآن، وأن من جحد شيئاً منه كفر، وما نُقِل عن ابن مسعود في الفاتحة والمعوذتين باطل ليس بصحيح عنه”. (5)
ومنهم الإمام الباقلاني: الذي أنكر أن يقصد ابن مسعود ذلك، وذكر كلاماً طويلاً يقرب من ثلاثين صحيفة فنَّد فيه كل الاحتمالات التي قد يُفهم منها أن ابن مسعود كان لا يرى قرآنية المعوذتين. وأنصح السائل بالرجوع لكتابه ففيه كثيرٌ من الحجج التي يطمئن لها قلب المؤمن. (6)
ثانياً: وذهب جمع من العلماء إلى ثبوت وصحة ما ورد عن ابن مسعود، كالحافظ ابن حجر، وابن كثير، والسيوطي وغيرهم. وعلق ابن حجر في الفتح على كلام النووي السابق بأنَّ: “فيه نظر”، بل  وصف الرواية التي فيها حكُّ ابن مسعود المعوذتين بأنها: “صريحة صحيحة”..(7)
وبناء على ما سبق فإن المنسوب لابن مسعود ثابت ولا يصح إنكاره، وهو قول أكثر أهل العلم، لكن بعضهم تأوله، وبعضهم جعله خطأً بشرياً وقع فيه ابن مسعود، وعده بعضهم من شواذه.
وهذه جملةٌ من أقوالهم وردودهم في هذه المسألة:
1- علل ابن كثير في تفسيره سبب اعتراض ابن مسعود، فقال: “وهذا مشهور عند كثير من القراء والفقهاء: أن ابن مسعود كان لا يكتب المعوذتين في مصحفه، فلعلَّه لم يسمعهما من النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يتواتر عنده، ثم لعله قد رجع عن قوله ذلك إلى قول الجماعة، فإن الصحابة، رضي الله عنهم، كتبوهما في المصاحف الأئمة، ونفَّذُوها إلى سائر الآفاق كذلك، ولله الحمد والمنة”.(8)
2- وهناك من قال: بأن ابن مسعود لم يجحد أن تكون المعوذتان ممّا أنزله الله تعالى، وإنّما حسب أنّهما دعاءٌ أُوحيَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما روى ذلك البزار عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ كَانَ يَحُكُّ الْمُعَوِّذَتَيْنِ مِنَ الْمُصْحَفِ وَيَقُولُ: «‌إِنَّمَا ‌أَمَرَ ‌النَّبِيُّ ‌صَلَّى ‌اللهُ ‌عَلَيْهِ ‌وَسَلَّمَ ‌أَنْ ‌يُتَعَوَّذَ ‌بِهِمَا» ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ لَا يَقْرَأُ بِهِمَا. قال البزار: ” وَهَذَا الْكَلَامُ لَمْ يُتَابِعْ عَبْدَ اللَّهِ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَرَأَ بِهِمَا فِي الصَّلَاةِ وَأُثْبِتَتَا فِي الْمُصْحَفِ”. (9)
وأكد ابن قتيبة كونَهما عُوذةً، حين علل ما نسب لابن مسعود فقال: “لكنّ عبد الله ذهب – فيما يَرى أهل النظر – إلى أن المعوذتين كانتا كالعُوذة والرّقية وغيرها، وكان يرى رسولَ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، يعوّذ بهما الحسنَ والحسين وغيرَهما”. (10)
وأخرج الطبراني عن أبي عبد الرحمن السُّلمي ما يؤكد أن ابن مسعود كان يراهما عُوذة، فقال: ” إنَّهُ كَانَ يَقُولُ: ” لَا تَخْلِطُوا بِالْقُرْآنِ مَا لَيْسَ فِيهِ، فَإِنَّمَا هُمَا مُعَوِّذَتَانِ تَعَوَّذَ بِهِمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ “، وَكَانَ عَبْدُ اللهِ يَمْحُوهُمَا مِنَ الْمُصْحَفِ”. (11)
3- وهناك من يرى أن ابن مسعود كان يَعْلَمُ المعوّذتين، ويقرُّ بكون النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمرَ بالتّعوّذ بهما، لكن  خفي عليه أن تكونا قرآناً، وغيره كان أعلمَ بهما، وأنّهما كانتا من القرآن، بل باتّفاق الجميع. وغاية ما في الأمر أن ابن مسعود لم يَعلم، وغيره قد عَلِم، ومن عَلِمَ حجّةُ على مَن لم يَعلم.
4- كما أن تلاميذ ابن مسعود وكانوا من سادة التابعين، كإبراهيم النخعي، لم يأت عن أحد منهم موافقة ابن مسعود في رأيه هذا كما روى ابن أبي شيبة في مصنفه: ” عَنْ إِبْرَاهِيمَ النخعي، قَالَ: قُلْتُ لِلْأَسْوَدِ: مِنَ الْقُرْآنِ هُمَا؟، قَالَ: «نَعَمْ»، يَعْنِي: الْمُعَوِّذَتَيْنِ”. (12)
كما أن قراءة عاصم عن ابن مسعود كما أسلفت قبل قليل ثبت فيها المعوذتان وهي صحيحة ونَقْلُها عن ابن مسعود صحيح. (13)
5- وبعضهم تأول ما جاء عن ابن مسعود أنه كان لا يكتب المعوذتين في قرآنه؛ أنه محمولٌ لا على نفي أن المعوذتين من القرآن بل على أنه كان لا يرى سُنيَّةَ الكتابة لذلك، فإنه كان يرى أن لا يَكْتُبَ في المصحف شيئاً إلا إن كان النبي صلى الله عليه وسلم أَذن في كتابته فيه. وكأنه لم يبلغه الإذن في ذلك، واستبعد هذا الرأي بعض أهل العلم. (14)
6- ذكر ابن أبي داود في كتاب “المصاحف” ما يشير إلى رجوع ابن مسعود عن رأيه، حين بوَّب في كتابه فقال: باب رضا عبد الله بن مسعود بجمع عثمان رضي الله عنه المصاحف، ثم روى عَنْ فُلْفُلَةَ الْجُعْفِيِّ قَالَ: “فَزِعْتُ فِيمَنْ فَزِعَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ فِي الْمَصَاحِفِ (أي التي جمعها عثمان)، فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: إِنَّا لَمْ نَأْتِكَ زَائِرِينَ، وَلَكِنَّا جِئْنَا حِينَ رَاعَنَا هَذَا الْخَبَرُ، فَقَالَ: «إِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى نَبِيِّكُمْ مِنْ سَبْعَةِ أَبْوَابٍ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ [أَوْ حُرُوفٍ] ، وَإِنَّ الْكِتَابَ قَبْلَكُمْ كَانَ يَنْزِلُ [أَوْ نَزَلَ] مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ، مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ». (15)  فهذه الرواية تدل على رضا ابن مسعود بجمع عثمان القرآن وانتساخه النسخ وتوزيعها على الأمصار ، ولا شك أن ما نسخه عثمان كان مشتملاً على المعوذتين.
بعد عرض جملة الأقوال في المسألة والظروف الملابسة لها، يمكن أن نرجح أن ابن مسعود كان يقرُّ بالمعوذتين لكن خفي عليه كونهما من القرآن، ومما يؤكد ذلك الأحاديث الواردة فيهما:
أ- عَنْ ‌عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «‌أُنْزِلَ ‌عَلَيَّ ‌آيَاتٌ ‌لَمْ ‌يُرَ ‌مِثْلُهُنَّ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، وَ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} إِلَى آخِرِ السُّورَةِ». (16)
ب- وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أيضاً، أَنَّهُ قَالَ: ” اتَّبَعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ رَاكِبٌ، فَوَضَعْتُ يَدِي عَلَى قَدَمِهِ، فَقُلْتُ: أَقْرِئْنِي سُورَةَ هُودٍ أَوْ سُورَةَ يُوسُفَ. فَقَالَ: ” ‌لَنْ ‌تَقْرَأَ ‌شَيْئًا ‌أَبْلَغَ ‌عِنْدَ ‌اللهِ مِنْ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ “. (17)
ج- وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أيضاً، قَالَ: كُنْتُ أَقُودُ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاحِلَتَهُ فِي السَّفَرِ، فَقَالَ: ” يَا عُقْبَةُ ‌أَلَا ‌أُعَلِّمُكَ ‌خَيْرَ ‌سُورَتَيْنِ ‌قُرِئَتَا؟ ” قُلْتُ بَلَى. قَالَ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ فَلَمَّا نَزَلَ صَلَّى بِهِمَا صَلَاةَ الْغَدَاةِ، قَالَ: ” كَيْفَ تَرَى يَا عُقْبَةُ؟ “. (18)
ملحوظة هامة: من المعلوم أنّ ابن مسعود شهد العرضة الأخيرة للقرآن على النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهذا يعني أن عنده عِلمُ ما نُسخ من القرآن – كما بينه ابن عباس رضي الله عنه حين قَالَ: ‌أَيُّ ‌الْقِرَاءَتَيْنِ ‌تَعُدُّونَ ‌أَوَّلَ؟ قَالُوا: قِرَاءَةَ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: لَا، بَلْ هِيَ الْآخِرَةُ، ” كَانَ يُعْرَضُ الْقُرْآنُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ، عُرِضَ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ، فَشَهِدَهُ عَبْدُ اللهِ، فَعَلِمَ مَا نُسِخَ مِنْهُ وَمَا بُدِّلَ “. (19) فلا تظننَّ أخي السائل أن المعوّذتين هما ممّا نُسخ تلاوةً، وأن ابن مسعود كان يعلم ذلك وهو ما دفعه إلى القول بعدم قرآنيتهما ؛ لأن الأمر لو كان كذلك في نظر ابن مسعود، لكان ذلك أقوى في حجّته على نفيهما من المصحف، ولما احتاج أن يعلّل نفيَهُما بكونهما دعاءٌ أوحي إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وليستا بقرآن. ثمّ إنّ المنسوخ قرآن أيضاً لكنّه نُسخ، وليس هكذا قول ابن مسعود في المعوّذتين.
إيقاظ:  إن سلَّمنا أن ابن مسعود أنكر المعوذتين وأنكر الفاتحة بل أنكر القرآن كلَّه، فإن إنكاره هذا لا يضرنا في شيء لأنَّ هذا الإنكار لا يُنقض تواتر القرآن ولا يَرفع العلمَ القاطع بثبوته القائم على التواتر. ولم يقل أحد في الدنيا إن من شرط التواتر والعلم اليقيني المبنيِ عليه ألا يخالف فيه مخالف. (20)
وفي ختام الإجابة أحب أن أؤكد على أمرين اثنين:
الأول:  إن عدم علم ابن مسعود بقرآنية المعوذتين لا يُنْقِصُ من قدره رضي الله عنه، فهو مَن هُو مِنَ السابقين الأولين، وممن صلى إلى القبلتين، وهاجر الهجرتين، وشهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أهل بدر، وأحد الذين أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤخذ منهم القرآن، وهو الذي قال فيه رسول الله : ” ‌مَنْ ‌أَحَبَّ ‌أَنْ ‌يَقْرَأَ ‌الْقُرْآنَ ‌غَضًّا ‌كَمَا ‌أُنْزِلَ، فَلْيَقْرَأْهُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ “. (21)
وأنَّ الغلط في الأصول واردٌ على الكبار في الاجتهاد، وليس يمنع اعتقادُ فضلِ الصحابة وعلوِّ قدرهم من وقوعهم فيه، وإنّما العصمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثمّ لأمّته في مجموعها من بعده.
الثاني: لقد تواطأت الأمّة على صحة ما بين دفتي المصحف، وأنه الكتاب الّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأنه المبدوء بسورة الفاتحة المختوم بسورة الناس، وإجماع الأمة معصومٌ، وبعد استقرار الإجماع لا يجوز لأحدٍ أن يعتبر ما خالف الرسم العثماني قرآناً، وما وافق الرسم العثماني يشترط فيه التواتر ليعتبر قرآناً، وهو الحقّ المبين الذي لا يجوز مخالفته.
وأخيراً: إن ديننا واضح وليس فيه ما نخجل منه أو نخافه، وما نذكره من الخلاف في هذه المسألة دليل ذلك. ولعل من حِكم حدوث مثل هذا الخلاف الخطير المتعلق بأصدق كتاب؛ لِيبدوَ واضحاً ويظهرَ جلياً مصداق قول الله تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ ‌لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9].
والله تعالى أعلم.
وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


(1):مسند أحمد بن حنبل (21186).
(2):الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان (4429).
(3):مسند أحمد (6795).
(4):المحلى بالآثار لابن حزم (1/32).
(5):شرح المهذب للنووي ( 3/396)؛ وينظر: الإتقان في علوم القرآن للسيوطي (1/271)؛ مناهل العرفان للزرقاني (1/275).
(6):ينظر: الانتصار للقرآن للإمام أبي بكر الباقلاني (1/300) إلى (1/330).
(7): ينظر:  تفسير ابن كثير (8/531)؛ فتح الباري لابن حجر العسقلاني (8/743)؛ الإتقان للسيوطي (1/273).
(8):تفسير ابن كثير (8/531).
(9):مسند البزار (1586).
(10):تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة الدينوري ص34.
(11):المعجم الكبير للطبراني (9151).
(12):مصنف ابن أبي شيبة (30206).
(13):ينظر: مناهل العرفان للزرقاني (1/276).
(14):ينظر: فتح الباري لابن حجر (8/743) وقد نقل ابن حجر هذا التأويل عن الباقلاني، وعن القاضي عياض؛ وانظر البرهان في علوم القرآن للزركشي (2/128).
(15):المصاحف لأبي بكر ابن أبي داود السجستاني ص82.
(16):سنن النسائي (5440).
(17):مسند أحمد (17455).
(18):مسند أحمد (17392).
(19):مسند أحمد (3422).
(20):ينظر: مناهل العرفان للزرقاني (1/277).
(21): مسند أحمد (18457).