هل قَِصص القرآن حقيقية أو رمزية ومروية فقط للاعتبار؟

يجيب عن السؤال الشيخ أنس الموسى 

السؤال

هل قَِصص القرآن حقيقية أو رمزية ومروية فقط للاعتبار؟

الجواب

 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

نعم كل ‌قصص ‌القرآن وأمثاله، وما ورد في هذا القصص من أشخاص وأحداث، هو من الواقع الذي لا شك فيه؛ فقصص القرآن، هي من كلام رب العزّة، أوحى به إلى الرسول الأكرم؛ ليكون مأخذ عبرة، أو موضع قدوة، أو مَجلاة حكمة، بل هي كما وصفها الله تعالى: (إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ) [آل عمران: 62] فقصص القرآن ليست عملاً فنياً خاضعاً لما يخضع له الفن من خَلقٍ وابتكار، من غير التزام لصدق التاريخ. (1)

والقصة: هي الْخَبَرُ عَنْ حَادِثَةٍ غَائِبَةٍ عَنِ الْمُخْبَرِ بِهَا، وجَمعُ القِصة: قِصَص بكسر القاف، وأما القَصَصُ بفتح القاف، فاسمٌ للخبر المَقصُوص. (2)

وقصص ‌القرآن لا يراد بها سرد تاريخ الأمم أو الأشخاص، وإنما هي عبرة واقعية للناس، كما بين الله  تعالى ذلك في سورة هود، بعد ما ذكر موجزًا من سيرة الأنبياء عليهم مع أقوامهم، فقال: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ} [يوسف: 111] ولذلك لا تَذكُر قصص القرآن الوقائع والحوادث بالترتيب، ولا تستقصيها، بل يُذكر في كل سورة من القصة الواحدة من المعاني والمواعظ، ما لا يُذكر في الأخرى، ومجموعها هو كل ما أراد الله تعالى أن يعظ به هذه الأمة. (3) ومن ثَمَّ كانت ‌قصص ‌القرآن- على محدودية عددها- مغطية للحياة البشرية في كل الأزمان والأماكن. (4)

ملحوظات حول قصص القرآن

  إيمانُ الناس بأن قصص القرآن هي من كلام رب العزّة، أوحى به إلى الرسول الأكرم؛ يجعل له (القَصص) في قلوبهم مكانة محفوفة بالإجلال، ويمنعهم من أن يدرسوه كما تدرس تلك القصص الصادرة من نفوس بشرية تجعل أمامها أهدافاً خاصة، ثم لا تبالي أن تستمد ما تقوله من خيال غير صادق، أو تخرج من جد إلى هزل، وتضع بجانب الحق باطلاً. (5)

الإيمان بأن القرآن تنزيل من عليم حكيم؛ يقتضي أن ما يَرد في القرآن من الأخبار لابد أن يكون موافقاً للواقع، ولو أجزنا أن يكون فيه أقوال غير مطابقة للواقع؛ لكان معنى ذلك: أن مِن أقواله ما يكون كذباً، لأن الكذب هو عدم مطابقة الكلام للواقع. (6)

ليس المراد بنفي كون ‌قصص ‌القرآن تاريخًا أن التاريخ شيءٌ باطل ضار يُنزَّهُ القرآن عنه. بل إن قَصصه شذورٌ من التاريخ تُعَلِّم الناس كيف ينتفعون بالتاريخ، فمِثل ما في القرآن من التاريخ البشري كمِثلِ ما فيه من التاريخ الطبيعي من أحوال الحيوان والنبات والجماد، ومثلِ ما فيه من الكلام في الفلك يراد بذلك كله التوجيه إلى العبرة، والاستدلال على قدرة الصانع وحكمته، لا تفصيلَ مسائل
العلوم الطبيعية والفلكية التي مكَّن الله البشر من الوقوف عليها بالبحث والنظر والتجربة، وهداهم إلى ذلك بالفطرة وبالوحي معًا. (7)

 ليس من الخطأ عدُّ قصص القرآن تأريخاً، بل القرآن أصحُّ مصدرٍ لما يُقص من شؤون الأمم الغابرة، والأمم التي كانت تعيش وقت نزوله؛ ذلك أن الدليل القائم على أن القرآن وحي إلهي هو الدليل الذي يشهد بأن قصصه تاريخ حق لازم للإيمان بأنه وحي سماوي، ومن يزعم أنه يوجد هذا الإيمان بدون ذلك الاعتقاد، فهو كمن يزعم أن الشمس طالعة، والنهار غير موجود. (8)

 إذا كان لنا نحن البشر أن نلجأ إلى الخيال والوهم لننسج منهما قصصًا، وذلك حين يعجز الواقع عن أن يسعفنا بما نتصوره ونتمناه، فإن قدرة الخالق جلّ وعلا لا يعجزها شىء.. تريد فيقع ما تريد، كما أرادته، دون قصورٍ أو مَهَل. (9)

جاء ‌القصص ‌القرآني للعبرة والموعظة كما قال ربنا: (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) ومن ثَمّ لم يذكر إلاَّ ما تمس الحاجة إليه من الفائدة، أما ذكر تفاصيل هذه القصص وجزئياتها فلم يذكر؛ لأن ذكر ما حدث في هذه القصص من خلاف ربما يُذهب الثقة بها، والمقصود هو أخذ العبرة. (10)

 قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} (يوسف: 111) يؤكد أن ‌قصص ‌القرآن ليست مخترَعة ولا مفتراة؛ بدليل وجود أمثالها بين الناس قبل نزوله، فهي وإن اختلفت قليلاً في بعض التفاصيل أو الجزئيات عما يرويه الناس، إلاَّ أنها توافقها
في الجملة، وتصدِّقُها في الجوهر، فلا تظنوا أيها المشركون أن النبي اخترعها بعقله، بل اسألوا عنها أهل الكتاب تجدوا أنها معروفةٌ بينهم، ومرويةٌ في كتبهم، فوجود ‌قصص ‌القرآن عند الناس من قبل لا يُضعف حجة القرآن، بل هو من أعظم ما يصدقه ويؤيده؛ ولذلك ترى القرآن نفسه يستدل بالقصص على كونه (القرآن) من عند الله؛ لأن النبي لم يَطَّلع على كتب أهل الكتاب. (11)
ملحوظة: لا يُفهم من الآية السابقة أن ‌قصص ‌القرآن يجب أن لا تختلف عن قصص التوراة والإنجيل في شيء، وإلاَّ لما قال تعالى: {إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (النمل: 76) فقصصه قد تختلف عما عندهم وتبين لهم حقه من باطله. فلا منافاة بين تصديق القرآن لقصصهم في الجملة، ومخالفته لها في بعض الجزئيات.

 ليس الغرض من سَوق القصص حصول العبرة والموعظة فحسب، بل الغرض من ذلك أسمى وأجل؛ إن في تلك القصص لعِبرًا جمَّة وفوائد للأمة؛ ولذلك نرى القرآن يأخذ من كل قصة أشرف مواضيعها، ويُعرض عما عداه؛ ليكون تعرضه للقصص منزَّهاً عن قَصد التفكُّه بها؛ من أجل ذلك كله لم تأت القصص في القرآن متتالية متعاقبة في سورة أو سور، كما يكون كتاب تاريخ، بل كانت مفرَّقة موزعة على مقامات تناسبها؛ لأن معظم الفوائد الحاصلة منها لها علاقة بذلك التوزيع.
(12)

– كون القصص القرآني أحسن القصص كما في قوله تعالى: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ ‌أَحْسَنَ ‌الْقَصَصِ﴾ [يوسف: 3] لأنه وارد من العليم الحكيم، فهو يوحي ما يعلم أنه أحسن نفعًا للسامعين في أبدع الألفاظ والتراكيب، فيحصل منه غذاء العقل والروح، وابتهاج النفس والذوق، مما لا تأتي بمثله عقول البشر. (13)

 هناك سّمة مطَّردة في ‌قصص ‌القرآن، وهو ألا تُذكر تفاصيلها؛ ففي سورة الكهف مثلاً -عند قصة ذي القرنين- لم يُذكر أي شيء عن شخصية ذي القرنين ولا عن زمانه أو مكانه؛ لأن المقصود هو العبرة المستفادة من القصة، والعبرة تتحقق بدون حاجة إلى تحديد الزمان والمكان في أغلب الأحيان. (14)

 وفي تلك القصص فوائد عظيمة وعبر جليلة، وأهم العبر فيها:

 فهم قصص ‌القرآن وتدبرُ معانيها، آيات بينات تدل على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، وعبر ومواعظ ونُذُر تبين سنن الله في خلقه مع الأقوام الذين كذبوا الرسل، وكان عاقبة أمرهم الدمار والنكال.
– بيان أصول الدين المشتركة بين جميع الأنبياء من الإيمان بالله وتوحيده وعلمه وحكمته وعدله ورحمته والإيمان بالبعث والجزاء.
– بيان أن وظيفة الرسل تبليغ وحي الله لعباده فحسب، ولا يملكون وراء ذلك نفعًا ولا ضرًا:
– بيان سنن الله تعالى في استعداد الإنسان النفسي والعقلي لكل من الإيمان والكفر والخير والشر.
 بيان سنن الله فى الاجتماع وطباع البشر وما في خلقه للعالم من الحكمة.
 آيات الله وحججه على خلقه في تأييد رسله.
– نصائح الأنبياء ومواعظهم الخاصة بكل قوم بحسب حالهم، كقوم نوح في غوايتهم وغرورهم، وقوم فرعون وملأه في ثروتهم وعتوهم، وقوم عاد في قوتهم وبطشهم، وقوم لوط في فحشهم» . (15)

وأخيراً:

الواجب علينا في ‌قصص ‌القرآن أن نفقهها، ونتدبر حكمة الله تعالى فيها، ونعتبر بها كما أنزلها ربنا سبحانه، من غير زيادة عليها أو نقص منها بآرائنا، أو بالرواية عن غير المعصوم فيها. وقد فُتن كثير من المفسرين بالروايات الإسرائيلية في قصصه، وكثيرها كذب مفترى، وما فيها من صحيح فلا حاجة بنا إليه، حتى صرنا بحاجة للتوفيق بين نصوص الوحي الحق المعصوم وبينها. (16)  والله تعالى أعلم.

وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


(1): موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين (2/ 1/ 121).
(2): ينظر: الطاهر بن عاشور: التحرير والتنوير (1/64).
(3): ينظر: محمد رشيد رضا: تفسير المنار (8/ 456).
(4):  الأساس في التفسير (3/ 1552).
(5): ينظر: موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين (2/ 1/ 127).
(6): موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين (2/ 1/ 122).
(7): ينظر: مجلة المنار (7/ 181).
(8): ينظر: موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين» (2/ 1/ 127).
(9): عبد الكريم يونس الخطيب: التفسير القرآني للقرآن (2/ 328).
(10): ينظر:  أحمد بن مصطفى المراغي: تفسير المراغي (2/ 215).
(11): مجلة المنار (16/ 833).
(12): ينظر: الطاهر بن عاشور: التحرير والتنوير (1/64).
(13):  الطاهر بن عاشور: التحرير والتنوير (12/204).
(14): ينظر: سعيد حوى: الأساس في التفسير (6/3220).
(15): تفسير المراغي (12/ 14)، (7/ 99).
(16): مجلة المنار (33/ 507).
وينظر: نور الدين عتر: علوم القرآن الكريم ص240؛ المقدمات الأساسية في علوم القرآن ص397؛ مناع القطان: مباحث في علوم القرآن ص316.

[الشيخ] أنس الموسى

الشيخ أنس الموسى هو الشيخ الحافظ الجامع أنس الموسى بن محمد بشير من مواليد سوريا – حماة 1974م 

تخرج في المعهد الهندسي قسم الإنشاءات العامة بدمشق، وتخرج في جامعة الأزهر كلية أصول الدين تخصص الحديث النبوي. 

قرأ على كبار علماء دمشق، منهم الشيخ عبد الرحمن الشاغوري والشيخ أديب الكلاس وغيرهم.

حفظ القرآن وأُجير به وبالقراءات العشر المتواترة،  على الشيخ بكري الطرابيشي والشيخ موفق عيون، كما وتخرج من مدرسة الحديث العراقية.

درس الكثير من المواد الشرعية في المعاهد الشرعية في سوريا وتركيا.

إمام وخطيب لمدة تزيد على 15 سنة.

مدرس للقرآن الكريم بمختلف قراءاته ورواياته.

حالياً يعمل كمدرس في مؤسسة سيكيرز، ومسؤول التوجيه الأكاديمي فيها.

أنهى مرحلة الماجستير في الحديث النبوي، وهو الآن يكمل في مرحلة الدكتوراه بنفس التخصص، متزوج ومقيم في إستانبول.