هل يجوز تأليف كتبٍ جديدة في التفسير للعلماء في عصرنا؟

يجيب عن السؤال الشيخ أنس الموسى 

السؤال

هل يجوز تأليف كتبٍ جديدة في التفسير للعلماء في عصرنا؟

الجواب

 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

نعم يجوز تأليف كتبٍ جديدة في التفسير للعلماء في عصرنا؛ بل في يومنا هذا صارت الحاجة ماسّةً للوقوف على تفسيرات حديثة للقرآن تتوافق مع الواقع المعاصر، تتصف بالبساطة والبعد عن التعقيد الموجود في تفسيرات المتقدمين، كما أن الحاجة إلى التفسير لا تقف عند عصر أو في مصر؛ ذلكم أن القرآن ليس ديوانَ شعرٍ يمكن أن تُشرح قصائده، فيقف الناس عند ذلكم الشرح، جل الله وعظم كتابه.

القرآن العظيم: كنزٌ زاخر وبحر وافر ‌لا ‌تنقضي ‌عجائبه، قد حوى لنا الكثير والكثير من العلوم والمعارف مما لا يمكن حصره، ومهما ظهر للبشر من علومه، فإنه لا يزال به الكثير من المعارف والعلوم والحكم والتشريعات الإلهية، التي يستقيم بها أمر البشرية، وكلما غاص العلماء في بحوره استخلصوا المزيد والمزيد من معانيه، فالقرآن معجزة تفيض بالمعجزات الكبيرة، وآية بينة تنطوي على آيات كثيرة. لَمَّا سمعه الجن لم يلبثوا أن ولّوا إلى قومهم منذرين: ﴿فَقَالُوا إِنَّا ‌سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ﴾ [الجن: 1-2]

قال ابن أبى الدنيا في حق القرآن وعلومه: وعلوم القرآن، وما يستنبط منه بحرٌ لا ساحل له”. (1)
وروي عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: “إنّ القرآن ‌ذو ‌شُجُونٍ ‌وفُنُونٍ، ‌وظُهورٍ ‌وبطون، لا تنقضي عجائبُه، ولا تُبْلَغ غايَتُه، فمَن أوْغَلَ فيه برِفْقٍ نَجا، ومَن أوْغَل فيه بعُنفٍ غَوى، أخبارٌ وأمثال، وحرام وحلال، وناسخ ومنسوخ، ومُحْكَم ومتشابه، وظَهْرٌ وبَطْن، فظهره التلاوة، وبطنه التأويل، فجالِسوا به العلماء، وجانِبوا به السفهاء، وإيّاكم وزَلَّةَ العالِم”. (2)

– بعد كل ما سبق لا نتعجب من كثرة التفاسير المؤلفة، كما لا نستغرب من استمرار حركة التأليف في التفسير إلى يومنا هذا، بل وكثرتها؛ لأنها تفاسير ترتبط بكتاب ‌لا ‌تنقضي ‌عجائبه، ولا تتناهى غرائبه، ولا تنقطع فوائده، نسخ به ربنا سبحانه سالف الكتب. كتاب جمع كثير من المعاني في قليل الألفاظ ، وهو كتاب: (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت: 42] مليء بالمفاهيم والأسرار، ودقائق النكت؛ فمن الطبيعي ألا تشبع منه العلماء.
وقد تنوعت التفاسير بتنوع النظرة لهذا الكتاب الكريم؛ فمن العلماء من نظر لقَصصه وما فيها من الدروس، ومنهم من نظر لأحكامه الفقهية، ومنهم من نظر لمعانيه الإشارية، ومنهم نظر لحقائقه العلمية التي أخبر عنها، ومنهم من نظر لإعجاز ألفاظه ومنهم ومنهم… فعلماء اللغة لم يشبعوا منه، وعلماء الطب والفلك ما زالوا مندهشين من الحقائق العلمية التي تحدث عنها، وكلما تطور العلم كلما كشف عن خفايا جديدة لم يتنبه لها المتقدم، وصدق الله تعالى إذ يقول: ﴿أَفَلَا ‌يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82]

وقفات تتعلق بتفسير القرآن

1- التفسير: علم يُفهم به كتاب الله المنزل على نبيه محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، وبيانُ معانيه، واستخراج أحكامه وحِكَمه، وقد أجمع العلماء أن التفسير من فروض الكفايات وأجلّ العلوم الشرعية. فعن الحسن قال: ما أنزل الله آية إلا وهو يُحبّ أن تُعلم فيما أنزلت وما أراد بها. (3)
وكان ابن عباس يقول: “الَّذِي ‌يَقْرَأُ ‌الْقُرْآنَ ‌وَلَا ‌يُحْسِنُ ‌تَفْسِيرَهُ كَالْأَعْرَابِيِّ يَهُذُّ الشِّعْرَ هَذًّا”. (4) والهذّ هو: سرعة القراءة والقطع.
وأخذ سعيد بن جبير عن أستاذه ابن عباس هذا المعنى فكان يقول: «من قرأ القرآن ثم لم يفسره كان كالأعمى أو كالأعرابي». (5)
وكان أَبو بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يقول: ‌” لَأَنْ ‌أُعْرِبَ ‌آيَةً ‌مِنَ ‌الْقُرْآنِ ‌أَحَبُّ ‌إِلَيَّ ‌مِنْ ‌أَنْ ‌أَحْفَظَ ‌آيَةً”. (6) ومِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قَالَ: “‌لَوْ ‌أَنِّي ‌أَعْلَمُ ‌إِذَا ‌سَافَرْتُ ‌أَرْبَعِينَ ‌لَيْلَةً ‌أَعْرَبْتُ ‌آيَةً ‌مِنْ ‌كِتَابِ ‌اللَّهِ ‌لَفَعَلْتُ”. (7) ومعنى الإعراب: إرادة البيان والتفسير؛  لأن إطلاق الإعراب على الحكم النحوي اصطلاح حادث، ولأنه كان في سليقة العرب لا يحتاجون إلى تعلُّمه.

 2- قيل: إن أشرف صناعة يتعاطاها الإنسان تفسير القرآن؛ لأن الصناعة تشرُف:

أ- إما بشرف موضوعها:  كصياغة  الذهب والفضة أشرف من الدباغة، لأن موضوع الصياغة، أشرف من موضوع الدباغة الذي هو جِلد الميتة.
ب- وإما بشرف غرضها: مثل صناعة الطب، لأن غرض الطب إفادة الصحة.
ج- وإما بشدة الحاجة إليها كحاجة المسلم للفقه في كل تفاصيل حياته.
وإذا عُرف ذلك فصناعة التفسير قد حازت الشرف من الجهات الثلاث. (8)

3- الحاجة إلى تفسير القرآن تزداد بتقدم الزمان والابتعاد عن عصر النبوة المبارك، قال السيوطي (ت 911 هـ): «إِنَّ الْقُرْآنَ إِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ فِي زَمَنِ أَفْصَحِ الْعَرَبِ وَكَانُوا يَعْلَمُونَ ظَوَاهِرَهُ وَأَحْكَامَهُ أَمَّا دَقَائِقُ بَاطِنِهِ فَإِنَّمَا كَانَ يَظْهَرُ لَهُمْ بَعْدَ الْبَحْثِ وَالنَّظَرِ مَعَ سُؤَالِهِمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَكْثَرِ … وَنَحْنُ مُحْتَاجُونَ إِلَى مَا كَانُوا ‌يَحْتَاجُونَ ‌إِلَيْهِ ‌وَزِيَادَةٍ عَلَى ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَحْتَاجُوا إِلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ الظَّوَاهِرِ لِقُصُورِنَا عَنْ مَدَارِكِ أَحْكَامِ اللُّغَةِ بِغَيْرِ تَعَلُّمٍ فَنَحْنُ أَشَدُّ النَّاسِ احْتِيَاجًا إِلَى التَّفْسِيرِ». (9)
وما قاله السيوطي، رحمه الله، عن حاجة أهل زمانه إلى التفسير ينطبق على أهل زماننا، إن لم يكونوا أكثر منهم حاجة إليه.

4- من أقوال السلف التي تدل على أهمية علم التفسير، وفضل البحث والتفكر في معاني كلام الله تعالى:
 ما جاء عن أبى الدرداء أنه قال: “‌لَا ‌يَفْقَهُ ‌الرَّجُلُ ‌كُلَّ ‌الْفِقْهِ ‌حَتَّى ‌يَجْعَلَ ‌لِلْقُرْآنِ ‌وُجُوهًا”. (10)
– وقال ابن مسعود: “من أراد علم الأولين والآخرين فليثوّر القرآن”. (11)
 ونُقل عن بعض العلماء قولهم: لكل آية ستون ألف فهم. (12)
 قال سفيان بن عيينة عند قوله تعالى: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ ‌الَّذِينَ ‌يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ [الأعراف: 146] أي: أنزَع عنهم فهم القرآن، وأصرفهم عن آياتي. (13)
 وعن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿‌يُؤْتِي ‌الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [البقرة: 269] قال: المعرفةُ بالقرآن، ناسخُه ومنسوخُه، ومحكمُه، ومتشابهُه، ومقدَّمه ومؤخَّره، وحلاله وحرامه، وأمثاله. (14)
وعنه أيضاً: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ) قال: يعنى تفسيره، فإنه قد قرأه البرّ والفاجر.
وعن أبى الدرداء: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ قال: قراءة القرآن والفكرة فيه. (15)
 وعن عمرو بن مرة قال: ما مررت بآية فى كتاب الله لا أعرفها إلا أحزنتني، لأني سمعت الله يقول:
﴿وَتِلْكَ ‌الْأَمْثَالُ ‌نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ [العنكبوت: 43] (16)
فهذا وغيره كثير، لَيدلُّ على أن لفهم معانى القرآن مجالاً رحبًا، ومتَّسعًا بالغًا، وأن المنقول من ظاهر التفسير ليس ينتهى الإدراك فيه بالنقل والسماع.

5- وهنا أمر لا بد من التنبيه عليه، عند القول بجواز وجود كتب جديدة في التفسير، فهذا لا يعني أن يتصدَّر لتفسير القرآن كلُّ أحد، بل لابد من توافر الأهلية لهذا العمل الخطير، وتحقق الشروط الواجب توفرها في المفسر، وهي خمسة عشر علمًا:
أحدها: اللغة: لأن بها يُعرف شرح مفردات الألفاظ ومدلولاتُها بحسب الوضع.
الثاني: النحو: لأن المعنى يتغير ويختلف باختلاف الإعراب فلا بد من اعتباره.
الثالث: التصريف: لأن به تعرف الأبنية والصيغ.
الرابع: الاشتقاق: لأن الاسم إذا كان اشتقاقه من مادتين مختلفتين اختلف باختلافهما، كالمسيح: هل هو من السياحة أو المسح.
الخامس، والسادس، والسابع: المعاني، والبيان، والبديع: لأنه يعرف بالأول: خواص تراكيب الكلام من جهة إفادتها المعنى، وبالثاني: خواصها من حيث اختلافها بحسب وضوحِ الدلالة وخفائِها، وبالثالث: وجوه تحسين الكلام.
وهذه العلوم الثلاثة هي علوم البلاغة، وهى من أعظم أركان المفسر؛ لأنه لا بد له من مراعاة ما يقتضيه الإعجاز، وإنما يدرَك بهذه العلوم.
الثامن: علم القراءات: لأنه يعرف به كيفية النطق بالقرآن، وبالقراءات يترجح بعض الوجوه المحتملة على بعض.
التاسع: أصول الدين: ويستدل به على: ما يستحيل، وما يجب، وما يجوز.
العاشر: أصول الفقه: إذ به يعرف وجه الاستدلال على الأحكام والاستنباط.
الحادي عشر: أسباب النزول والقصص: إذ بسبب النزول يعرف معنى الآية المنزَلة فيه؛ بحسب ما أنزلت فيه.
الثاني عشر: الناسخ والمنسوخ: ليُعلم المحكَم من غيره.
الثالث عشر: الفقه.
الرابع عشر: الأحاديث المبيِّنة لتفسير المجمَل والمبهَم.
الخامس عشر: علم الموهبة: وهو علم يورثه الله تعالى لمن عمل بما علم. (17)
وأخيراً: في العصر الحديث، ظهرت العديد من الكتب المعاصرة لتفسير القرآن الكريم بطريقة تتوافق مع الواقع المعاصر وتكون مفهومة للقرّاء؛ لأنها تستخدم اللغة البسيطة وتتجنب التعقيدات، وتركز على المعنى المقصود من الآيات. لكن ينبغي التنبه إلى أن بعض هذه التفاسير غير معتمد، وبعضها الآخر منحرف عن جادة الحق؛ لذلك أنصح السائل الرجوع لكتب مناهج المفسرين، وكتب علوم القرآن، سؤال أهل العلم الموثوقين؛ ليتبين المثالب الموجودة في بعض كتب التفسير فيكون منها على بينة وحذر. والله تعالى أعلم

وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


(1): السيوطي: الإتقان في علوم القرآن (4/216).
(2): ينظر: السيوطي: الإتقان في علوم القرآن (4/226) وعزاه لابن أبي حاتم؛ مساعد الطيار: موسوعة التفسير بالمأثور (5/42).
(3): الآلوسي روح المعاني (1/6).
(4): السيوطي: الإتقان في علوم القرآن (4/198).
(5): الطبري: جامع البيان (1/ 35).
(6): ينظر: أبو عبيد القاسم بن سلام: فضائل القرآن ص348؛ السيوطي: معترك الاقران في إعجاز القرآن (1/100).
(7): السيوطي: الإتقان (4/198).
(8): ينظر:  الآلوسي: روح المعاني (1/6).
(9): ينظر: السيوطي: الإتقان في علوم القرآن (4/196)؛ غانم قدوري: محاضرات في علوم القرآن ص220.
(10): ملا علي القاري: مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (1/315)؛ السيوطي: الإتقان في علوم القرآن (4/226).
(11):  السيوطي: الإتقان في علوم القرآن (4/226).
(12): ينظر: السيوطي: الإتقان في علوم القرآن (4/226)؛ إبراهيم الأبياري: الموسوعة القرآنية (9/27).
(13): الطبري: جامع البيان (13/112).
(14): الطبري: جامع البيان (5/8)؛ الحارث المحاسبي: فهم القرآن ص327.
(15):  ابن أبي حاتم: تفسير القرآن (2/533).
(16): ابن حجر العسقلاني: العجاب في بيان الأسباب (1/7)، السيوطي: الدر المنثور في التفسير بالمأثور (6/464).
(17): ينظر: الآلوسي: روح المعاني (1/6).

[الشيخ] أنس الموسى

الشيخ أنس الموسى هو الشيخ الحافظ الجامع أنس الموسى بن محمد بشير من مواليد سوريا – حماة 1974م 

تخرج في المعهد الهندسي قسم الإنشاءات العامة بدمشق، وتخرج في جامعة الأزهر كلية أصول الدين تخصص الحديث النبوي. 

قرأ على كبار علماء دمشق، منهم الشيخ عبد الرحمن الشاغوري والشيخ أديب الكلاس وغيرهم.

حفظ القرآن وأُجير به وبالقراءات العشر المتواترة،  على الشيخ بكري الطرابيشي والشيخ موفق عيون، كما وتخرج من مدرسة الحديث العراقية.

درس الكثير من المواد الشرعية في المعاهد الشرعية في سوريا وتركيا.

إمام وخطيب لمدة تزيد على 15 سنة.

مدرس للقرآن الكريم بمختلف قراءاته ورواياته.

حالياً يعمل كمدرس في مؤسسة سيكيرز، ومسؤول التوجيه الأكاديمي فيها.

أنهى مرحلة الماجستير في الحديث النبوي، وهو الآن يكمل في مرحلة الدكتوراه بنفس التخصص، متزوج ومقيم في إستانبول.