هل الكتب السابقة مثل التوراة والإنجيل كانت معجزة كما يكون القرآن معجزة؟

يجيب عن السؤال الشيخ أنس الموسى 

السؤال

هل الكتب السابقة مثل التوراة والإنجيل كانت معجزة كما يكون القرآن معجزة؟

الجواب

 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

التوراة والإنجيل كتابان من عند الله تعالى لا شك في هذا ولا ريب، وهما من كلام الله تعالى، ولا شك ولا ريب في صدقهما، إلا أن اليهود والنصارى حرفوهما وبدلوهما، وزادوا فيهما ونقصوا، وجعلوا كل واحدٍ منهما عدة نسخ يناقض بعضها بعضاً، ويكذِّب بعضها بعضاً، فاختلط الحق فيهما بالباطل.
والتوراة والإنجيل على هذا ليسا بمعجزة، كما هو حال القرآن الكريم؛ فهو معجزة خالدة على كر الدهور ومرِّ الأيام.

تفصيل الإجابة:

– اللهُ عز وجل حين أرسل أنبيائه أيّدهم بالحجج والبينات الدالة على صدق ما يدْعون الناس إليه من الإيمان والتصديق بنبوتهم، كما قال سبحانه وتعالى: (وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ) [الحديد:25].

– من حكمته سبحانه وتعالى، أن جعل معجزات كل رسول متناسبةً مع عصره الذي بُعث فيه، والقوم الذين بُعث فيهم؛ فالسحر -مثلاً – كان منشراً في قوم موسى عليه السلام؛ فكانت معجزته عليه السلام من جنس المنتشر في قومه، وصارت عصاه التي انقلبت إلى ثعبان حقيقي معجزةً دالة على صدق نبوته ودعوته. ولانتشار الطب وتطوره في زمن عيسى عليه السلام؛ كانت معجزة إحياء الموتى، معجزةً دالةً على نبوته صلى الله عليه وسلم … وهكذا.

ولما بُعث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أيده الله تعالى كذلك بمعجزاتٍ دالةٍ على نبوته وصدق ما يدعو إليه، ولأن رسالته صلى الله عليه وسلم هي الرسالة الخاتمة الباقية؛ ناسب أن تكون معجزته صلى الله عليه وسلم تحمل صفة البقاء والدوام، حتى بعد التحاقه بالرفيق الأعلى؛ لتكون حجةً قائمة مستمرة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ فكان القرآن الكريم – كتاب الله الذي بين أيدينا اليوم – هو تلك المعجزة المستمرة طيلة خمسة عشر قرناً من الزمان. ويؤيد هذه الحقيقة قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا أُعْطِيَ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيَّ، ‌فَأَرْجُو ‌أَنْ ‌أَكُونَ ‌أَكْثَرَهُمْ ‌تَابِعًا ‌يَوْمَ ‌الْقِيَامَةِ». (1)

– هناك نوع اختلاف بين معجزة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومعجزات بقية الأنبياء عليهم السلام؛ فمعجزاتهم – وإن كانت ممّا لا يقع مثلها في العادة لغيرهم من البشر – كانت أدلّةً على صدق النبي في دعواه لمن شهدها، وأما نصيبُ من لم يشهدها فهو الخبر الواجب التّصديق، في حين نرى أن معجزة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم (القرآن)، باقيةٌ لم تزل حيّةً بين النّاس، لم تتبدّل ولم تتغيّر، ولن يكون ذلك في يوم من الدّهر أبداً.

– ويلاحظ أيضا في معجزة القرآن، أنها اختلفت عن معجزات الرسل اختلافاً آخر؛ فكل رسول كانت له معجزة، وله كتاب ومنهج؛ فمعجزة موسى العصا، ومنهجه التوراة، ومعجزة عيسى الطب، ومنهجه الانجيل، إلاَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن معجزته هي عينُ منهجه؛ ليظلَّ المنهج محروساً بالمعجزة، وتظلَّ المعجزة في المنهج؛ ومن هنا فقد كانت المحافظة على الكتب السابقة للقرآن داخلةً في نطاق التكليف؛ بمعنى أن الله سبحانه وتعالى كان يكلف عباده بالمحافظة عليها، أما القرآن فقد تكفل الله سبحانه وتعالى بحفظه حين قال: ﴿‌إِنَّا ‌نَحْنُ ‌نَزَّلْنَا ‌الذِّكْرَ ‌وَإِنَّا ‌لَهُ ‌لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9] لأن كون القرآن معجزة لابد أن يبقى بهذا النص وإلاَّ ضاع الإعجاز، وكل هذا الذي تحقق للقرآن لم يتحقق للكتب السابقة، وبالتالي لن يكون لها من الإعجاز ما تحقق للقرآن.

يقول الشيخ عبد الله دراز عند حديثه عن تحديد معنى القرآن، والمعنى اللغوي والاشتقاقي لكلمتي “قرآن” و”كتاب”: ” روعي في تسميته قرآنًا كونه متلوًّا بالألسن، كما روعي في تسميته كتابًا كونه مدونًا بالأقلام، فكلتا التسميتين من تسمية الشيء بالمعنى الواقع عليه، وفي تسميته بهذين الاسمين إشارة إلى أنَّ مِن حقِّه العنايةُ بحفظه في موضعين لا في موضع واحد، أعني أنه يجب حفظه في الصدور والسطور جميعًا، أن تَضلَّ إحداهما فتذكِّر إحداهُما الأخرى، فلا ثقة لنا بحفظ حافظ حتى يوافق الرسمَ المجمَع عليه من الأصحاب، المنقول إلينا جيلًا بعد جيل على هيئته التي وُضع عليها أول مرة، ولا ثقة لنا بكتابة كاتب حتى يوافق ما هو عند الحفاظ بالإسناد الصحيح المتواتر. وبهذه العناية المزدوجة التي بعثها الله في نفوس الأمة المحمدية اقتداءً بنبيها بقي القرآن محفوظًا في حرز حريز، إنجازًا لوعد الله الذي تكفل بحفظه حيث يقول: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] ولم يصبه ما أصاب الكتب الماضية من التحريف والتبديل وانقطاع السند، حيث لم يتكفل الله بحفظها، بل وَكَلَها إلى حفظ الناس فقال تعالى: ﴿‌وَالرَّبَّانِيُّونَ ‌وَالْأَحْبَارُ ‌بِمَا ‌اسْتُحْفِظُوا ‌مِنْ ‌كِتَابِ ‌اللَّهِ ﴾ [المائدة: 44] أي بما طُلب إليهم حفظه”. (2)

– معنى إعجاز القرآن: إثباتُه عجزَ البشر عن الإتيان بمثله، فهو إعجازٌ شمل ألفاظه وتراكيبه وبلاغته، كما شمل الحقائق العلمية التي أخبر عنها، وإخبارَهُ عن الغيوب المستقبلية والأمم الماضية وتفصيل ما جرى لهم، مع أن الرسول الذي جاء بالقرآن كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب، ومع ذلك فقد أعجز الجميع عن أن يأتوا بسورة في حجم سورة العصر منه، فأي إعجاز بعد هذا؟!

وللحقيقة:

فإن الحديث عن إعجاز القرآن حديث شائق طويل الذيول كثير الفوائد والعوائد، وكيف لا وهو يتعلق بالقرآن الذي قال الله تعالى فيه: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ ‌الْإِنْسُ ‌وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ [الإسراء: 88] وقال أيضاً: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الحشر:21] وهذه الخصوصيّة جعلت القرآن أعظم الأدلّة على صدق النّبيّ صلى الله عليه وسلم في رسالته، والحجّة الباقية على النّاس إلى أن تقوم السّاعة.

– يقول الشيخ محمد عبد الله دراز في كتابه “النبأ العظيم” تحت عنوان: سر اختصاص القرآن بالخلود وعدم التحريف، دون الكتب السابقة: “والسر في هذه التفرقة أن سائر الكتب السماوية جيء بها على التوقيت لا التأبيد، وأن هذا القرآن جيء به مصدقًا لما بين يديه من الكتب، ومهيمنًا عليها، فكان جامعًا لما فيها من الحقائق الثابتة، زائدًا عليها بما شاء الله زيادته، وكان سادًّا مسَدَّها، ولم يكن شيء منها ليسُدَّ مسده، فقضى الله أن يبقى حجة إلى قيام الساعة، وإذا قضى الله أمرًا يسر له أسبابه، وهو الحكيم العليم”. (3)

ويقول الدكتور فهد الرومي تحت عنوان خصائص عامة للقرآن: مرت بالقرآن أحداث عظيمة، وأهوال جسيمة، وعوامل خطيرة، وتكالب عليه الأعداء، وتداعت عليه الأمم، ولو مر بعض ذلك على غير القرآن لأصابه ما أصاب الكتب السابقة من التحريف، والتغيير، والتبديل. أما القرآن فقد مر بهذه الأحوال المتماوجة، والدواعي المتكالبة، ولم تنل منه بغيتها، بل وصل إلينا كما أنزله الله، لم يتبدل، ولم يتغير، ما طالته الأفواه النافخة، ولا نالته الأصوات اللاغية؛ ليُتم الله نوره ولو كره الكافرون.

وقد كانت هذه الآية بالنسبة للصحابة رضي الله عنهم خبرًا، ولكنها الآن خبرٌ ومعجزة، معجزة أن مر خمسة عشر قرنًا ولم يقع ما يخالفها، وخبر بأن الحفظ مستمر إلى يوم القيامة. أما الكتب السابقة فلم يتعهد الله بحفظها، بل أوكل أمر حفظها إلى أهلها، فقال تعالى: ﴿‌إِنَّا ‌أَنْزَلْنَا ‌التَّوْرَاةَ ‌فِيهَا ‌هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ﴾ [المائدة: 44] (4)

– نعود لنؤكد على حقيقة أن القرآن معجز للبشر بعبارته اللغوية، عجزَ عن الإتيان بسورة من مثله فحولُ بلغاء العرب الذين اشتهروا بالفصاحة والبلاغة، ولم يكن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قبل النبوة يُعدُّ من طبقتهم فيها، وقد تحداهم الله بأن يأتوا بسورة مثله، ومصرِّحًا بأنهم لن يفعلوا: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا ‌وَلَنْ ‌تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 23-24] وكانوا أحرص الناس على تكذيبه، ولو قدروا لفعلوا، واستمر هذا الإعجاز إلى يومنا هذا، ولم يقل أحد من الناس بأن ترجمة القرآن للغات أخرى يحمل من الإعجاز ما يحمله النص الأصلي الذي سبق وأشرنا إلى أنه معجز بعبارته، وبالمقابل لم يقل أحد بأن ترجمة التوراة والإنجيل ‌معجزة للبشر لا يستطيع أحد أن يأتي بمثلها؛ فظهر الفرق بين القرآن وغيره من الكتب السابقة كفلق الصبح أو أشد نورًا. (5)

– وأما كون ‌التوراة ‌غير المحرفة معجزةً من حيث المعان؛ لاشتمالها على الأخبار عن الغيوب، كالإخبار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث بمدة طويلة، أو الأوامر والنواهي الإلهية، فهذا لا ريب فيه، وهذا لا يمكن عمله بدون إعلام الله لهم. (6)

وبذلك يتضح أن الإعجاز والتحدي غير واقع بغير القرآن، فلم يحصل أصلًا وقوع التحدي في نصوص الكتب السابقة، أو على لسان أنبيائهم، هذا مع ما هو معلوم من التناقض والاختلاف الشديد بين النسخ المتعددة للتوراة والإنجيل التي تؤكد عدم مشابهتهما لإعجاز القرآن العصي على التحريف، وصدق الله تعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء:82]. والله تعالى أعلم.

وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

(1): صحيح البخاري (4981)؛ صحيح مسلم (152).
(2): محمد عبد الله دراز: النبأ العظيم ص41.
(3): محمد عبد الله دراز: النبأ العظيم ص42.
(4): فهد الرومي: دراسات في علوم القرآن ص65.
(5): ينظر: محمد رشيد رضا: مجلة المنار (34/ 311).
(6): ينظر: موسوعة الفرق المنتسبة للإسلام – الدرر السنية (4/ 181).

[الشيخ] أنس الموسى

الشيخ أنس الموسى هو الشيخ الحافظ الجامع أنس الموسى بن محمد بشير من مواليد سوريا – حماة 1974م 

تخرج في المعهد الهندسي قسم الإنشاءات العامة بدمشق، وتخرج في جامعة الأزهر كلية أصول الدين تخصص الحديث النبوي. 

قرأ على كبار علماء دمشق، منهم الشيخ عبد الرحمن الشاغوري والشيخ أديب الكلاس وغيرهم.

حفظ القرآن وأُجير به وبالقراءات العشر المتواترة،  على الشيخ بكري الطرابيشي والشيخ موفق عيون، كما وتخرج من مدرسة الحديث العراقية.

درس الكثير من المواد الشرعية في المعاهد الشرعية في سوريا وتركيا.

إمام وخطيب لمدة تزيد على 15 سنة.

مدرس للقرآن الكريم بمختلف قراءاته ورواياته.

حالياً يعمل كمدرس في مؤسسة سيكيرز، ومسؤول التوجيه الأكاديمي فيها.

أنهى مرحلة الماجستير في الحديث النبوي، وهو الآن يكمل في مرحلة الدكتوراه بنفس التخصص، متزوج ومقيم في إستانبول.