هل أول ما نزل من القرآن ﴿يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ﴾؟

يجيب عن السؤال الشيخ أنس الموسى

السؤال

هل حقاً أول ما نزل من القرآن هو قول الله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ﴾؟

الجواب

الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد؛

اتفقت كلمة العلماء على أن أول ما نزل من القرآن هو قول الله تعالى: ﴿‌اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ….﴾ [العلق: 1- 5]. ولعل السائل اشتبه عليه ما ورد عن جابر بن عبد الله، مع ما ورد عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنهما.

  • أما ما ورد عن جابر رضي الله عنه:

فهو في صحيح مسلم عن يَحْيَى بن أبي كثير قال: “سَأَلْتُ أَبَا سَلَمَةَ: ‌أَيُّ ‌الْقُرْآنِ ‌أُنْزِلَ ‌قَبْلُ؟ قَالَ: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، فَقُلْتُ: أَوِ اقْرَأْ؟ فَقَالَ: سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ: ‌أَيُّ ‌الْقُرْآنِ ‌أُنْزِلَ ‌قَبْلُ؟ قَالَ: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. فَقُلْتُ: أَوِ اقْرَأْ؟ قَالَ جَابِرٌ: أُحَدِّثُكُمْ مَا حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: «جَاوَرْتُ بِحِرَاءٍ شَهْرًا، فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِي نَزَلْتُ فَاسْتَبْطَنْتُ بَطْنَ الْوَادِي فَنُودِيتُ فَنَظَرْتُ أَمَامِي وَخَلْفِي وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي فَلَمْ أَرَ أَحَدًا، ثُمَّ نُودِيتُ فَنَظَرْتُ فَلَمْ أَرَ أَحَدًا ثُمَّ نُودِيتُ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا هُوَ عَلَى الْعَرْشِ فِي الْهَوَاءِ (يَعْنِي جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَام) فَأَخَذَتْنِي رَجْفَةٌ شَدِيدَةٌ فَأَتَيْتُ خَدِيجَةَ فَقُلْتُ: دَثِّرُونِي فَدَثَّرُونِي فَصَبُّوا عَلَيَّ مَاءً فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وجل: ﴿‌يا أيها الْمُدَّثِّرُ ۞ قُمْ فَأَنْذِرْ ۞ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ۞ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ » [المدثر: 1- 4] (1). 

  • أما ما ورد عن السيدة عائشة رضي الله عنها:

فهو حين ذَكرت أول ما بُدئ به رسول الله من الوحي وفيه: «فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ، قَالَ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. قَالَ: فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ۞ خَلَقَ الإِنْسَانَ من علق ۞ اقرأ وربك الأكرم. فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي» (2) 

والتحقيق:
هذان قولان غير متعارضين؛ فإنّ حديث جابر لا يتحدث عن ابتداء الوحي الأول، إنما يتحدث عن أول ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتور الوحي، وهو هذه الآيات من سورة المدثر، وهي أول ما نزل من القرآن تأمر النبي صلّى الله عليه وسلم بالإنذار، ويدل على هذا حديث جابر السابق نفسه في رواية أخرى: قال أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الأنصاري قال، وهو يحدث عن فترة الوحي، فَقَالَ فِي حَدِيثِهِ: «بَيْنَا أَنَا أَمْشِي إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ بَصَرِي، فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي ‌جَاءَنِي ‌بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَرُعِبْتُ مِنْهُ، فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ: زَمِّلُوْنِي زَمِّلُوْنِي، فَأنَزَلَ اللهُ تعالى: ﴿‌يا أيها الْمُدَّثِّرُ ۞ قُمْ فَأَنْذِرْ… فَحَمِيَ الْوَحْيُ وَتَتَابَعَ». (3)

فهذا صريح في أنّ الوحي سبق بالنّزول قبل أن ينزل بـ ﴿‌يا أيها الْمُدَّثِّرُ، لكنّ جابرًا لم يعلم أنّ ذلك الّذي سبق كان اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ، ولذلك لم ينكر هذا القول حين سأله عنه أبو سلمة بن عبد الرّحمن، وإنّما ذكر ما عنده من العلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمّا عائشة فكان عندها بخصوص ذلك من العلم ما لم يكن عند جابر.

وخلاصة القول:
إن صدر سورة العلق هو أول ما نزل من القرآن على الاطلاق، وقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ۞ قُمْ فَأَنْذِرْ ۞ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ۞ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر: 1 – 4] هو أول ما نزل بعد فتور الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا تعارض بين الروايتين، وبذلك يزول الاشتباه ويَفتكُّ الاشتباك.

وأخيراً:
افتتاح الوحي بـ ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الذي خلق… فيه حِكمٌ كثيرةٌ جليلة، حتى أن الخطباء والكتّاب والأدباء لا يملّون من القول فيها، ومن أن يرددوه في كل مناسبة تقال عن العلم وعن الحضارة، وعن الثقافة وعن القرآن وعن الإسلام، وعن أثر القرآن في تحويل العالم، ولا سيما إذا قارنّا ذلك بما افتتح به كتاب آخر لدى الأمم الأخرى. (4)

وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


تمت الإجابة عن السؤال من قبل الشيخ أنس لموسى، وراجعها الشيخ فراز رباني.



الشيخ أنس الموسى عالم إسلامي من مواليد سورية حماة 1974م. حاز على إجازة في الحديث الشريف من جامعة الأزهر، وماجستير من جامعة يلوا في نفس التخصص، فضلاً عن أنه مجاز في الهندسة من جامعة دمشق. تتلمذ على أكابر علماء الشام ومشايخها: كالشيخ بكري الطرابيشي، والشيخ أديب الكلاس، والشيخ الدكتور نور الدين عتر، وغيرهم…
لديه خبرة واسعة في تطوير التدريس والمناهج في المعاهد الإسلامية في سورية وتركية وغيرهما…
يقوم بالإقراء بالقراءات العشر من طريق الشاطبية والدرة، ومدرس لمختلف العلوم الشرعية في كثير من المعاهد الشرعية، ويقوم بالتدريس التقليدي بطريقة الإجازة في دار الفقهاء تركية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] صحيح مسلم (257).
[2] صحيح البخاري (3).
[3] صحيح البخاري (4).
[4] ينظر: البرهان في علوم القرآن للزركشي (1/ 207)؛ مناهل العرفان للزرقاني (1/ 93)؛ علوم القرآن الكريم د. نور الدين عتر ص35؛ المحرر في علوم القرآن د. مساعد الطيار ص81.