هل أصحاب الكبائر في النار خالدين فيها؟

 يجيب عن السؤال الشيخ أبو بكر باذيب

السؤال

هل أصحاب الكبائر في النار خالدين فيها؟

الجواب

بسم الله والحمدلله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد؛
فإن الإسلام أتى بتحريم المعاصي والتحذير من الاقتراب منها أو مقارفتها، ونصوص الكتاب والسنة في ذلك كثيرة، والمعاصي درجات، فمنها الصغائر أو اللم ومنها الكبائر، ورتب الشرع الحنيف على كل من هذه المعاصي أحكاماً وعقوبات متفاوتة. ولنقتصر هنا على موضوع السؤال، وهو الكبائر.

فالكبائر جمع كبيرة، وهي: ما لحق صاحبها وعيد شديد بنص كتاب أو سنة، كأكل الربا. قال تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48]. فمرتكب الكبيرة وهو مؤمن لاشك أنه يعذب بقدر ذنبه، ولكنه لا يخلد خلود الكافر الأصلي في النار.

نعم، وردت آية في كتاب الله تعالى تنص على أن قاتل المؤمن يخلد في النار، قال تعالى : ﴿ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا ﴾ [النساء: 93]، وقاتل المؤمن إما أن يكون كافراً أو مؤمناً، والآية عامة فتشمل الاثنين، فكيف يكون المؤمن القاتل مخلداً كالكافر؟

فالجواب:

معنى الآية أنّ الذي يقتل المؤمن لإيمانه، أي: يقتله لأنّه مؤمنٌ، فهو كافرٌ، وجزاؤه جهنم خالدا فيها، أما من يقتل نفسا بغير حق أو يقتل نفسه فلا يكون كافرا مخلدا في النار بل هو مسلم مذنب من أهل الكبائر، وكفارة القتل، ذكرت في الكتاب العزيز، قال الله عز وجل: {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا خطأ ومن قتل مؤمنًا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة} [النساء: 92]. فأوجب الكفارة عليه.

قال الإمام أبو منصور الماتريدي: «أهل التفسير أجمعوا على أن المراد بالآية استحلال القتل، وهكذا قال ابن عباس رضي الله عنه»(1).
وقال الإمام الغزالي
«َهَذِه العمومات أَيْضا مَخْصُوصَة بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى {وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء} فَيَنْبَغِي أَن تبقى لَهُ مَشِيئَة فِي مغْفرَة مَا سوى الشّرك»(2).
وقال الإمام النسفي (ت 710هـ) في «مدارك التنزيل»:
«﴿ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً ﴾ حال من ضمير القاتل، أي: قاصداً قتله لإيمانه، وهو كفرٌ، أو قتلَه مستحلاً لقتله، وهو كفر أيضاً؛ {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَـٰلِداً فِيهَا}»(3)،

وقال السعد في «شرح العقائد»: «والجواب: ان قاتل المؤمن لكونه مؤمنا لا يكون إلا الكافر. وكذا من تعدي جميع الحدود. وكذا من أحاطت به خطيئته وشملته من كل جانب. ولو سلم، فالخلود قد يستعمل في المكث الطويل، كقولهم: سجن مخلد. ولو سلم. فمعارض بالنصوص الدالة على عدم الخلود»(4).

وفي متن (العقائد النسفية):
«وَأَهْلُ الْكَبَائِرِ مِنَ الْمُؤْمِنِيْنَ لَا يُخَلَّدُوْنَ فِي النَّارِ».

وللإمام الحليمي كلام جميل ومفيد جداً، في كتابه «المنهاج في شعب الإيمان»، تحدث فيه عن طبقات الناس في المحشر، قال رحمه الله: “ثم إن الناس يومئذ ثلاث طبقات:

  • إحداهما: المؤمنون المتقون، وهم الذين يوافون يوم القيامة بلا كبائر الذنوب.
  • والثانية المؤمنون المخلطون وهم الذين يوافون القيامة بالفواحش والكبائر.
  • والثالثة الكفار.

[1] فأما المتقون فإن حسناتهم توضع في الكفة النيرة، وصغائرهم- إن كانت لهم- في الكفة الأخرى، فلا يجعل الله لتلك الصغائر وزنا، وتثقل الكفة النيرة حتى لا تبرح، وترفع المظلمة ارتفاع الفارغة الخالية،

[2] وأما المخلطون فإن حسناتهم أيضا توضع في الكفة النيرة، وآثامهم وسيئاتهم في الكفة المظلمة. فيكون يومئذ لكبائرهم التي جاءوا بها ولحسناتهم ثقل، إلا أن الحسنات تكون بكل حال أثقل لأن معها أصل الإيمان، وليس مع السيئات كفر، ويستحيل وجود الإيمان والكفر معا لشخص واحد، فيوزن أحد بالآخر، ولأن الحسنات لا يراد بها إلا وجه الله تعالى، والسيئات لم يقصد بها مخالفة الله تعالى، وإشفاق من غضبه فاستحال أن توازى السيئات وإن كثرت حسنات المؤمن، ولكنها عند الوزن لا تخلو من ثقيل يقع بها للميزان حتى يثقلها كبعض ثقل الحسنات، فيجزي أمر هؤلاء على ما يثبت في باب زيادة الإيمان ونقصانه.

[3] وأما الكفار فإن كفرهم ومعاصيهم التي دعاهم إليها، وهو بها عليكم، كفرهم في الكفة المظلمة ولا يوجد لهم حسنة توضع في الكفة الأخرى، فتبقى خفيفة لفراغها وخلوها من الجزاء، فيأمر الله تعالى جده بهم إلى النار، ويعذب كل واحد منهما بقدر أوزاره وأيامه.

وأما المتقون فإن صغائرهم باجتنابهم الكبائر تغفر، ويؤمر بهم إلى الجنة. ويثاب كل واحد منهم بقدر حسناته وطاعاته”(5).

وقال الإمام اللقاني في «الجوهرة»:

ومن يمت ولم يتب من ذنبه          فأمره مفوض لربه

وواجب تعذيب بعض ارتكب … كبيرة ثم الخلود مجتنب

هذه خلاصة المسألة، ومن أراد المزيد فعليه بشروح «الجوهرة» وحواشيها، والله الموفق.

الحواشي:

1-   الماتريدي، شرح الفقه الأكبر: ص 7.

2-   الغزالي، إحياء علوم الدين (قواعد العقائد): 1/ 120.

3-   النسفي، مدارك التأويل: 1/385.

4-   التفتازاني، شرح العقائد النسفية: ص 77.

5-   الحليمي، المنهاج في شعب الإيمان: 1/ 393-394