هل الاكتئاب علامة على ضعف الإيمان؟

 يجيب عن السؤال الشيخ الدكتور محمد أبو بكر باذيب

السؤال

هل الاكتئاب علامة على ضعف الإيمان؟

الجواب

بسم الله والحمدلله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد؛ فإن الله سبحانه وتعالى فطر الإنسان وركب فيه غرائز وطبائع متنوعة، وتتحكم في تلك الطباع والغرائز لطائف هي الروح والنفس والقلب والفؤاد والعقل، لكل لطيفة من تلك اللطائف حالات تخصها، كما أن كل لطيفة ذات مراتب وأنواع، فالنفس مثلاً تتنوع إلى أربع نفوس، فنفس لوامة، ونفس راضية، ونفس مرضية، ونفس مطمئنة. وهكذا، فسبحان الخالق العظيم.

والنفس البشرية تتأثر بعوامل خارجية وداخلية، فإذا مدحت (مثلا) فرحت وانتشت وربما تعاظمت وانتفخت، وإذا أهينت صغرت وتطامنت وربما اكتأبت وانطوت على نفسها، وهناك عامل آخر قد يؤثر من الداخل إذا غفل الإنسان عن ذكر الله تعالى وهو العامل الشيطاني الوارد في حديث: “إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم”[]، وورد في الحديث الذي أخرجه الشيخان عن أبي هريرة، رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب كل عقدة: عليك ليل طويلٌ فارقُد، فإن استيقظَ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدةٌ، فإن صلى انحلت عقدة، فأصبح نشيطاً طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان”(1). قال شيخ الإسلام زكريا في (شرح البخاري): “قافية الرأس: قفاه، وهو مؤخَّر العنُق. وقافية كل شيء: مؤخره. وخُصّ القفا بذلكَ لكونه عند الحكماء محَلُّ الوهامةِ، ومحل تصرفها، وهو أطوَعُ القوى للشيطان، وأسرعُها إجابةً لدعوته”(2). وقال العلامة السندي: “ولعل تخصيص العقد بالثلاث لتمنع كل عقدة عن واحد من الأمور الثلاث أعني الذكر والوضوء والصلاة”(3).

وقال الحافظ ابن عبدالبر: “وأما عقد الشيطان على قافية رأس بن آدم إذا رقد فلا يوصل إلى كيفية ذلك وأظنه كناية عن جنس الشيطان وتثبيطه للإنسان على قيام الليل وعمل البر. وقيل: إنها كعقد السحر، من قول الله تعالى: {النفاثات في العقد} [الفلق: 4]. وفي هذا الحديث دليل على أن ذكر الله تعالى يطرد به الشيطان بالتلاوة والذكر والأذان مجتمع عليه معلوم”(4).

فتبين من هذا الحديث الشريف وغيره، أن ذكر الله تعالى ينفي عن الإنسان وسوسة الشيطان وتثبيطه عن العبادة، ويفك العقد التي يعقدها الشيطان على مؤخرة رأس الإنسان إذا غفل عن ذكر الله عند استيقاظه. وهذا يؤدينا إلى القول: بأن الاكتئاب لا يعرف طريقه إلى قلب المؤمن العامر بذكر الله، والمشغول بعبادته، لأنه لا وقت لديه لسماع وسوسات الشيطان وأعوانه، وهو مشغول بوظائف يومه وليلته.

وبما تقدم، نعلم أن الاكتئاب له أسباب:

منها: الغفلة عن ذكر الله تعالى في سائر الأحوال، وبسببها يكون تسلط الشيطان على قلب الإنسان فيلقي فيه الوساوس والأوهام والخواطر الرديئة.

ومنها: ما يكون سببه دنيوي، كمجريات الحياة التي تصيب الناس كلهم، من موت وحزن، ومصائب وخسائر في الأموال والأنفس، فهذه الأمور تؤثر في النفوس، ولكن المسلم يعلم أنها أقدار الله، فيسلم لما قدره الله ولا يجزع، لأن الجزع لن يفيده إلا تعباً ورهقا في قلبه وبدنه.

فالاكتئاب ليس من شرطه أن يصيب ضعيف الإيمان، بل قد يصيب المؤمن الموقن لعارض يعرض له، في حالة ضعف وانكسار، ولكن المؤمن يستيقظ سريعاً وينفض عن نفسه ذلك الأمر العارض، وضعيف الإيمان قد يجزع ويزداد في اكتئابه فيتعب ويتعب من حوله، وعلاجه تذكيره بعظمة الله وقدرته، وإرشاده إلى الإكثار من تلاوة القرآن وذكر الله والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وحضور مجالس العلم والذكر مع الصالحين والأخيار، أو بالتنزه في البلاد فإنها من مزيلات الأحزان وفيها منافع كثيرة.

نسأل الله تعالى أن يجنبنا وأحبابنا الغفلة، ويحفظنا من الاكتئاب وغيره من الأمراض النفسية، وأن يجعلنا من عباده الصالحين العامرة قلوبهم بذكر الله المشغولين بطاعته وشكره وحسن عبادته. وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه.

الهوامش:

1- البخاري، صحيح البخاري: 2/ 65، رقم 1142.

2- الأنصاري، منحة الباري بشرح صحيح البخاري: 3/ 210

3- السندي، حاشية السندي على سنن ابن ماجه: 1/ 399

4- ابن عبدالبر، الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار (2/ 299

لشيخ الدكتور محمد أبو بكر باذيب

هو الشيخ الدكتور محمد أبو بكر باذيب عالم إسلامي من علماء اليمن، مواليد شبام – حضرموت 1976م

نال الشيخ الإجازة في الشريعة من جامعة الأحقاف، والماجستير من جامعة بيروت الإسلامية، والدكتوراه في أصول الدين من جامعة عليكرة الإسلامية .(AMU)

تتلمذ على أكابر العلماء: كالشيخ الحبيب أحمد مشهور الحداد، والشيخ فضل بافضل، والحبيب سالم الشاطري، والحبيب علي مشهور بن حفيظ، وغيرهم…

كان مديرَ المطبوعات في دار الفقيه، ونائبَ مدير العلاقات الثقافية بجامعة الأحقاف سابقاً، ومساعدَ شؤون الموظفين في شركة عطية للحديد سابقاً، وباحثاً في مركز السنة التابع لمؤسسة دلة البرك، وباحثاً في مؤسسة الفرقان فرع موسوعة مكة المكرمة والمدينة المنورة

وهو الآن باحث في مؤسسة الفرقان فرع موسوعة مكة المكرمة والمدينة المنورة، ويقوم بالتدريس التقليدي بطريقة الإجازة في دار الفقهاء تركيا، ويشرف على القسم العربي بمعهد نور الهدى العالمي (seekersguidance)، وعضو أمناء دار المخطوطات بإستانبول

من مؤلفاته: جهود فقهاء حضرموت في خدمة المذهب الشافعي، وإسهامات علماء حضرموت في نشر الإسلام وعلومه في الهند، وحدائق النعيم في الفقه الشافعي،  بالإضافة إلى تحقيق عدد من الكتب الفقهية والتاريخية وفي فن التراجم والأثبات (الأسانيد