من دروس الهجرة | الصبر على البلاء | الشيخ أحمد الأحمد

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد.

يُبْتَلَى الإنسان حسب قوة إيمانه، سئل النبي «أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟، قَالَ: (الأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ…». [1]؛ تمحيصاً للمؤمنين ورَفْعاً لدرجاتهم، أو تكفيراً لسيئاتهم؛ لذلك كانت حياة الرسول  وأصحابه في بدء الدعوة تمور موراً بالبلاء؛ ليكونوا قدوة للناس.

 

مارستْ قريشٌ على المسلمين كلَّ أساليب القهر؛ لصدِّهم عن دينهم الذي يرون فيه تهديداً لمصالحهم؛ فَعَدَوا على أتباعه المستضعفين، فأذاقوهم ألوان العذاب الرهيب. وكان نصيبُ سميةَ وزوجِها ياسرٍ من ذلك العذاب فادحاً. والرسول لا يملك إلا أن يقول: «صَبْرًا آلَ يَاسِرٍ، فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْجَنَّةُ» [2] وقضوا أخيراً تحت العذاب. 

 

ومر النبي على خَبَّابٍ يُسْحَبُ عارياً على الجمر، وعلى بلالٍ مطروحاً على صخرة تَلْفِظُ فَيْحَ الحميم، ثم يحمل بضعةُ رجالٍ صخرةً مستعرةً ويلقونها فوق جسده! وبلالٌ ينادي أحَدٌ أحَدٌ! والرسول ينظر متألماً، ولا يملك إلا أن يقول: «كان الرجل فيمن قبلكم يُحْفَرُ له في الأرض فَيُجْعَلُ فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه» [3]؛ مِمَّا كان له عظيمُ الأثر في صبرهم وثباتهم.

 

ثمَّ تطاولوا على الأشراف جاء في حياة الصحابة: «وَثَارَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ يَضْرِبُونَهُمْ فِي نَوَاحِي الْمَسْجِدِ ضَرْبًا شَدِيدًا وَوُطِئَ أَبُو بَكْرٍ، وَضُرِبَ ضَرْبًا شَدِيدًا، وَدَنَا مِنْهُ الْفَاسِقُ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، فَجَعَلَ يَضْرِبُهُ بِنَعْلَيْنِ مَخْصُوفَيْنِ، وَيُحَرِّفُهُمَا لِوَجْهِهِ» [4]. فأما الرسول فكان في مَنَعَةِ عَمِّهِ أبي طالب، وبَعْدَ وفاته نالوه بكل أنواع الأذى، من الغمز واللمز والسخرية فقابل ذلك كله بالصبر الجميل ثم تمادوا عليه، فبزق عقبةُ بن أبي معيط في وجهه، «فَلَمْ يَزِدْ النَّبِيُّ أَنْ مَسْحَ وَجْهَهُ مِنَ الْبُزَاقِ» [5]

 

ومرة وضع ثوبه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه ودفعه عن النبي وقال: «أتقتلون رجلاً يقول ربي الله؟» [6].  البخاري 3643  

ومرة ألقى عليه وهو ساجد سلا ناقةٍ فلما قضى صلاته، دعا على سبعة من زعماء قريش يقول ابن مسعود: «فوالله لقد رأيتهم صرعى يوم بدرٍ» [7]

 

وما دعا عليهم إلا بعد أن طفح الكيل، ثم عاد إلى طبيعته الرحيمة، ففي رحلته إلى الطائف تلقى الإهانة من العِلْيَةِ قبل السفلة، فنزل ملك الجبال يستأذنه «إن شئت أن أُطبق عليهم الأخشبين؟ فقال: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئاً» [8].

أخيراً عقدوا اجتماعاً لَخَّصت أهم مقرراته آية: «وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ» [9]. لكن ترجّحت عندهم فكرة قتله تلك الليلة فاصطحب النبي أبا بكر إلى غار ثور ومن ثم إلى المدينة وأسّس دولته فيها على أُسُسٍ متينة ثم عاد فاتحاً لمكة خلال ثماني سنوات، وبعد ربع قرن فقط أطاحت دولة الإسلام بمملكتي الفرس والروم مجتمعتين وصدق الله القائل وبشر الصابرين. 

 

وفي الختام أقول كَثُر في عصرنا المهاجرون إلى بلاد الغرب هروباً من الظلم فأنصحهم أن يحافظوا على ثوابت الإسلام كالصلاة والصيام وأكل الحلال والحِشمة في اللباس والبعد عن المحرمات قال النبي «والمهاجر مَن هجر ما نَهى اللهُ عنه». [10]

وليعلم كل مهاجر أنه على ثغرة من ثُغر الإسلام فلا يؤتينّ الإسلام من قبله فالناس ينظرون إلى أعماله، فبمقدار تمسّكه بمكارم الأخلاق وتقديم العون للضعفاء وعدم مخالفة القوانين المرعية في البلاد، فإن الناس يحبّون دينه وربما يكون ذلك سبباً في اعتناقهم الإسلام.

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد والحمد لله رب العالمين. 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] رواه الترمذي وقال هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. (2398).

[2] رواه الحاكم: في المستدرك (5646)، والبيهقي: في شعب الإيمان (1631).

[3] البخاري: صحيح البخاري (3639، 3416، 6544).

[4] حياة الصحابة 1 /337.

[5] صحيح السيرة النبوية لإبراهيم بن محمد بن حسين العلي الشبلي الجنيني ج1 ص84.

[6] البخاري 3643  

[7] البخاري في الصحيح، ومسلم 107 – (1794) 

[8] البخاري: في صحيحه (3231)، ومسلم (4676- [111- 1795])

[9] الأنفال: 30.

[10] البخاري، في الصحيح 6484.