مقارنة بين هجرتين: اليهود لفلسطين.. المسلمون للمدينة (1) | الشيخ أنس الموسى

 

الحمد لله رب العالمين القائل في كتابه العزيز: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [الأنفال 72].

والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيِّدنا ونبيِّنا محمد  القائل: «الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لدُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» [1] وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

فكلَّما أهلَّ شهرُ الله المحرَّم معلنًا بداية العام الهجري الجديد عادت الذِّكرى بالمسلمين إلى تلك الحِقبة من تاريخ دعوة النبي  التي شهدت الانتقالَ من مرحلة لمرحلة أخرى، فقد كانت هجرة النبي  للمدينة المنورة حدثًا تاريخيًا غيَّر مَجرى التاريخ بل ومعالم الحياة التي حملت في ثناياها معاني التضحية والصبر والنصر والتوكل على الله عز وجل.

ونحن نستقبل العام الهجري الجديد تعود معه الذكرى لواقعنا المرّ الذي نعيشه نحن أبناء قرن الرابع عشر.. نستذكر فيه ما يفعله يهود بفلسطين وبالمسجد الأقصى من تدنيس وتهجير وعنصرية وسَلْب، فليس حيُّ الشيخ جرَّاح آخرَ حيٍّ يحاول الصهاينة الاستيلاء عليه بالقوة غيرَ آبهين بتاريخٍ ولا حاضرٍ ولا عُرفٍ ولا قانون.

تعود بنا الذكرى لنربط الحاضر بالماضي، فنقارِنَ بين هجرة اليهود لفلسطينَ وإقامة وطنٍ لهم على أرضها، وهجرة المصطفى  إلى المدينة المنورة لإقامة مجتمَعٍ مسلِمٍ فيها.

      • فما هي أبرز نقاط هذه المقارنة؟
  •  أولًا: لم يكن ليهودَ مبرراتُ النزوح من شتى بلدان العالم إلى أرض فلسطين؛ فقد كانوا يحققون مكاسبهم وما يريدون في المجتمعات التي كانوا يعيشون فيها، بل كانت بريطانيا وهي من أقوى دول العالم – وقتئذ – تساندهم وتمهِّد لهم الطريق، وأسطولها الحربي في بحار العالم يحميهم، بل لا نكون مخطئين لو قلنا: إن النظام العالمي هو من استولَدَ لليهود دولتهم وجعلَ وجودَهم في أرض فلسطين أمرًا واقعًا.
    أما هجرة المصطفى وأصحابه للمدينة المنورة فكانت بعد أن عزَّ النصيرُ وضاقت على المسلمين الأرض بما رَحُبت، فلا أحدَ يَرحَلُ عَن وطنِه إلاَّ إذا كانَ وطنُهُ فَمَ قِرش؛ فقد أصبحت مكّة مرتعًا للقتل والتعذيب والتنكيل على أساس اختلاف العقيدة، وغدت الحياة بين ظهراني المشركين مع عقيدة التوحيد التي بُعِثَ بها المصطفى  أمرًا متعذرًا، فتحولت مكة من دار أمنٍ واطمئنان إلى دار خوفٍ وبَغْيٍ وعدوان، وغضبت الدنيا على هذه الثُّلة القليلة من المسلمين؛ فخرجوا من مكة متوكلين على الله ليست لهم يدٌ تحميهم سوى يدُ الله تعالى، ولا كَنَفَ يأوون إليه إلاَّ كَنَفُ الله، ولا ظَهْرَ يلتمسون عنده العزَّة إلا الله.. وكفى بالله وكيلاً وكفى بالله نصيرًا.

    [حُبُّ الوطنِ فِطْرة ومع ذلك لم يَطُل تفكير الصحابة لمَّا أَمَرَهُم رسولُ الله ﷺ بالهجرة، وأن يربطوا مصالحهم الخاصَّة بمصلحة الإسلام؛ لأنَّهم يعيشون لربِّهم ويَحْيَونَ لدينهم]


  • ثانيًا: هجرة اليهود لفلسطين مؤامرةٌ نُسِجت خيوطها لعشرات السنين بل أكثر، وليس آخرها وعدُ بلفور الذي منحهم حق تكوين وطن لهم في فلسطين؛ وهو وعدُ مَنْ لا يَمْلِك لمَنْ لا يَسْتَحِق.والفرق كبير بين الهجرة النبوية والمؤامرة العالمية؛ فهجرة النبي وأصحابه للمدينة قد سبقتها وفودٌ من أهل المدينة جاءت للنبي فعرَض عليها دعوته وما بعثه الله فيه من الحق، فآمنوا وصدَّقوا فكانوا نوَّابه ورسله في يثرب يُعرِّفُون الناس بدعوته ورسالته حتى لم يَبقَ بيتٌ من بيوتات المسلمين فيها إلاَّ وعرف الإسلام ودعوتَه وعقيدتَه، وبيعةُ العقبة الأولى والثانية التي تذكرها كتب السيرة توضِّح هذا وتبينه، بل جهود مصعب بن عمير رضي الله عنه الذي حَمَل همَّ الدعوة وتَبْيِنَ رسالة النبي قد آتت أُكُلها وأثمرت دخولَ الإسلام أغلبَ بيوت أهل المدينة.فهجرة النبي للمدينة سبقها قناعة وإيمان وتصديق من أهل المدينة أن دعوة النبي  حقٌّ وأن الدفاع عنها واجب، وأن استقبال النبي  وأصحابه وتقاسم الرغيف معهم هي أقل ما يمكن أن يقدموه لنبيهم ودعوته، وشتان شتان بين المؤامرة والإيمان والرَّغبة والرَّهبة.

اللهم وفقنا لمحابك وألهمنا مراشد الصواب والهداية

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] صحيح البخاري: كتاب الإيمان، باب: ما جاء إن الأعمال بالنية والحسبة، ولكل امرئ ما نوى، (1 /20) ح (54).