مقارنة بين هجرتين: اليهود لفلسطين.. المسلمون للمدينة (2) | الشيخ أنس الموسى

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين سيِّدنا ونبيّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم إنَّا نستهديك لأرشَدِ أمورنا وزدنا علمًا ينفعنا.

وبعد: فما يزال الحديث مستمرًا في المقارنة بين هجرة النبي للمدينة المنورة، وهجرة يهود لفلسطين، وقد انتهى بنا المطاف للوجه الثالث من أوجه المقارنة، فنقول وبالله التوفيق:

  • ثالثًا: هجرة اليهود لفلسطين بالإضافة لكونها مؤامرة، هي عملية نهبٍ وسرقة وسطوٍ، وفرضٍ لسياسة الأمر الواقع بالقوة والبطش والتضييق على أصحاب الأرض، فاستولى يهود على أراضي الأوقاف الإسلامية وصادروها، وتحايلوا على أصحاب البيوت فسلبوها منهم، وأبعدوا الأحفاد عن أجدادهم، وقطعوا صلتهم بأرضهم وتاريخهم.

أما هجرة النبي للمدينة فكانت للبحث عن وطنٍ آخر بعد الظلم الذي تَعرَّض له هو وأصحابه في مكة، فالنبي لم يسرق وطنَ غيره بل إنَّ الوطن الذي هاجر إليه آمَنَ أغلب مَنْ فيه بدعوته ورسالته، بل هم من تولى مهمة الدفاع عنه، بل لمَّا سمع المسلمون في المدينة مَخرَج رسول الله من مكة صاروا ينتظرونه كل غَداة على الحَرَّة لا يُرْجِعُهُم لبيوتِهم إلاَّ حَرُّ الظهيرة، فانقلبَ المسلمون يومًا بعد أن طالَ انتظارهم، فلمَّا أووا إلى بيوتهم أَوْفَى رجلٌ من اليهود على أُطُمٍ مِن آطامهم لأمرٍ ينظر إليه فرأى رسولَ الله وصاحبَه فلم يَمْلِك اليهوديُ أنْ قال بأعلى صوته يا معاشرَ العرب هذا جدُّكم الذي تنتظرون، فلما وصل رسول الله للمدينة كانَ يومَ فرحٍ وابتهاج لم تَر المدينة يومًا مثله، ولبس الناس فيه أحسن ملابسهم كأنهم في يوم عيد. روى مسلم في صحيحه فقال: عندما دخل رسول الله المدينة: «صعِد الرجال والنساء فوق البيوت، وتفرّق الغلمان والخدم في الطرق، ينادُون: يا محمد يا رسول الله يا محمد يا رسول الله» [1] استقبال جماهيري مهيب لم يذكر التاريخ مثله.. فهل كان حال أهل فلسطين يوم هاجر إليهم اليهود كحال أهل المدينة مع رسول الله وأصحابه، وهل هذا مشهد من يَسرِقُ وطنًا، وهل هكذا يُستَقْبَل من يَسلُبُ الأوطان؟!!


  • رابعًا: لما وصل اليهود لفلسطين قتلوا شردوا وافتعلوا الحروب في العالم، وفككوا دولاً وأثاروا فيها النعرات، وتآمروا على الدولة العثمانية حتى فككوها ونفوا السلطان عبد الحميد؛ لأنه كان يقف في وجه هجرتهم واستيطانهم في فلسطين؛ ليضمنوا بقاءهم واستمرار احتلالهم وما يزال العالم إلى يعاني من الشرور التي افتعلوها والمكايد التي دبَّرُوها.

 لكلِّ فاجعةٍ في الأرض سُلوانُ…وما لنكبةِ الأرض في القدس سُلوانُ

 بيتٌ مشى بالأمس في ساحاتِه عمرُ…فكيف يَمرحُ اليومَ فيه شيطانُ

 

  • أما هجرة رسول الله وأصحابه للمدينة المنورة فهجرةُ بناءٍ وإعمارٍ لا هدمٍ واحتلال، هجرةٌ حَمَلَت معها السِّلْمَ والأمان، والسلامة والإيمان، وقد تجلى ذلك بصورٍ من أبرزها:

1- ما إن شارفَ النبي الوصولَ ليثرب حتى بنى مسجد قباء؛ وهو أولُ مسجد بُني في الإسلام، المسجد الذي يمثِّل السلام بأروع صوره، والحرية بأبهى معانيها.

2- أصلح ما بين الأوس والخزرج، وأزال ما بينهم من عداوة وجمعهم على اسم الأنصار، ويا لَهُ من اسم ويا لَهُ من مسمَّى.

3- أنشأ رسول الله أول نظام تكافل اجتماعي في تاريخ البشرية؛ عندما آخى بين المهاجرين والأنصار على المواساة، وعلى أساس أن المؤمنين إخوة فالحب في الله من أقوى دعائم بناء الأمة؛ فجعل كلُّ رجلٍ من الأنصار يؤاخي رجلاً من المهاجرين فيصير الرجلان أخوين بينهما من الروابط ما بين الأخوين من قرابة الدم، فكان الأنصار يتسابقون في مؤاخاة المهاجرين ويتقاسمون معهم ما يملكون من طعام وأرض وكَراع حتى آل الأمر للاقتراع في بعض الأحيان، ويقولَ الأنصاريُّ لأخيه المهاجر: انظر شطر مالي فخُذهُ.. ويَردُّ المهاجر: بارك الله لك في أهلك ومالك دُلَّني على السوق. فكان من الأنصار الإيثار، ومن المهاجرين العزَّة والعفَّة، وقد سطَّر الله هذه المواقف في آيات تُتْلى إلى يوم الدين: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الحشر 9]

فهل فعل يهود في هجرتهم لفلسطين ما فعله رسول الله؟!!

4- كانت هجرة النبي انطلاقةً لبناء دولةٍ وتأسيسٍ لمجتمع جديد؛ فنظَّم عَقْدَ الدولة الإسلامية محدِّدًا علاقة أهل المدينة ببعضهم ومع جيرانهم من أهل الكتاب والمشركين؛ فأُبْرِمَت المعاهدات مع يهود المدينة بوثيقة تُعْتَبَرُ أوَّل وثيقة تاريخية تَحمِل معنى المواطنة في مفهومنا المعاصر.

5- هاجر المسلمون للمدينة فكانوا دعاة توحيد وإصلاح للأرض؛ كانوا يُبلِّغُون ويعلِّمُون الدُّنيا أنَّ الله هو ربُّ الناس ملكُ الناس إلهُ الناس لا شريك له.

أما اليهود الذين هاجروا لفلسطين فصلتهم بالله مغشوشة والدوافع الدينية التي جاءت بهم لفلسطين فيها من الباطل أضعاف ما فيها من الحق وفيها من الظلم ما لن تجد معه شائبة عدل.

وأخيرًا بعد هذه المقارنة نستطيع القول: إنَّ مِنَ السُّخفِ المقارنةُ بين هجرة بناء وهجرة تهجير، هجرة نور وهجرة ظلام، هجرة خير وهجرة شر..

 

اللهم رُدَّ علينا المسجد الأقصى مكلَّلًا بالنصر وارزقنا صلاةً فيه.. آمين .. آمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

اللهم وفقنا لمحابِّكَ وألهمنا مَراشِد الصواب والهداية.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] صحيح مسلم: كتاب الزهد والرقائق، باب في حديث الهجرة، (4/ 2309) ح (2009).