مصادر الثقافة الإسلامية: رؤية عن حقيقة الجذور الإسلامية ومنابع المعرفة الإسلامية للحبيب أبي بكر المشهور

معرفة مصادر الثقافة الإسلامية من أهم الأمور التي ينبغي أن يعرفها المسلم، والداعية الأديب الحبيب أبو بكر المشهور يقدم هذا الأمر هنا ويبين معالمه، ويؤصل لأهمية الوقوف على جذور المعرفة الثقافية الإسلامية التي تتفق مع الواقع المعاصر وموقع ذلك من الكتاب والسنة، وعلاقتنا بالوافد الخارجي المعرفي في ضوء الإسلام، وبيان الثوابت الأربعة لأركان الدين، وبيان أهمية العلم النظري المادي، وتقرير حقائق التقعيد الشرعي، والحديث عن وجهة نظر الإسلام في الثقافة التي أتت من العالم الخارجي أثناء الاستعمار، وخطر القراءة الثلاثية للثوابت الإسلامية على الأمة.

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

مِن أصولِ ديننا الحنيف معرفة جذور المعرفةِ وأساسها ومَصدرها وموقعها مِن الكتاب والسُّنة حتى لا تَختلط المفاهيم الشرعية بالمفاهيم الوَضعية …. وخاصة في العصور التي أخبر مَن لا ينطقُ عن الهوى صلى الله عليه وآله وسلم أنَّ الأمَّة تُصابُ بـداءِ الأُمَمِ، وتُصابُ بعِلَّةِ الاستتباعِ، وتُصابُ بالقبضِ للعلماءِ ونَقضِ العِلمِ وبالتَّداعي والوَهَن وحُبِّ الدنيا …. إلخ. وهذه الإصابات المُشار إليها واقعةٌ لا مَحالة في أُمَّة القرآنِ والسُّنَّة مما يؤدي إلى فُقدان المُصَلِّينَ وشعوب الأُمَّة ثِقَتها في الرِّسالة ووقوعها في الجَهالة لا مَحالة ….

ومثل هذا التبيان عن هذه الحالة يقتضي عُمق القراءة للمسميات الغازية وخاصة تلك المصطلحات الواردة إلينا من قواميس العالم الآخر، عالم الشرق والغرب لنميزّ بين الغَث والسمين، والجائز والممنوع، ونستفيد مما يمكن الاستفادة منه والتعرف عليه من إيجابيات الحضارة والتقدم وثقافة الأمم دون الزج بمسألة ديانتها، فديانات الأمم ضابطنا الشرعي منها علاقتها بالسلامة من التحريف، وأما الثقافة فتكاد أن تتغلغل في حياتنا العلمية والاجتماعية بصورة غير مسبوقة[1] وتَجُر الأجيال إلى الانحلال والارتذال والابتذال بعيداً عن موضوع الديانة والتدين.

ومن هنا أحببنا أن نسلط الأضواء على هذه المسألة الخطيرة ونُعيد القراءة الشرعية لعلاقتنا بالوافد والغازي على ضوء الإسلام الحق، وليس على ضبابية التأسلم الباطل والتأقلم الماحل، واستباقاً شرعياً لما قد أخبر عنه صلى الله عليه وآله وسلم من نقض العرى في الأمة، وقد حصل النقض عياناً بياناً.
وبدأت ألسن المرتبطين بالثقافة الغازية ينكرون الالتزام بالموروث الشرعي ويؤمنون بالتفسير المرتبط بدساتير وقوانين الأمم الغازية في أمور كثيرة، ويرونها بديلاً عملياً لما فهمه السلف الأوائل عن المرأة والحريات وشكل الحكم السياسي وما شاكَل ذلك.

والإسلام الحق مهمته عالمية التناول، ووظيفته أن يقيِّم دراسة الديانة الشرعية قديمة وحديثة بثوابتها الأربعة المشار إليها في حديث جبريل مجتمعة لا متفرقة، وهذا ما فات على غالبية أجيال المسلمين الذين عاصروا مراحل الغزو الثقافي منذ بروز عهد الاستعمار إلى اليوم.

والثوابت الأربعة المشار إليها هنا هي ما يُعرف بأركان الدين، وقد كان المسلمون يدرسونها على نموذجين:
° أنموذج مُعلَن وهو: ما يعرف بدراسة وتطبيق فقه الثوابت (الإسلام، والإيمان، والإحسان).
° وفِقهٌ مكنون وهو: فقه المتغيرات والقراءة الشرعية للحوادث استباقاً ويُسمى (فقه التحولات).

وخلال مراحل التحوُّل الاستعماري في الوطن العربي والإسلامي [2] قامت القوى المهيمنة على مقدَّرات الشعوب بإعادة النظر في المناهج، وفصل الدراسة الموحدة بين أركان الدين في وحدته الموضوعية إلى ما يُعرف بـ(فرِّق تَسُد)، وهو قانون النقض والقبض والانتقاء ومصادرة قواعد التنشئة الشرعية الذي مارستْهُ القوى الإستعمارية في مؤسسات التعليم، مما هيأ تنشئة أجيال مسلمة في الواقع الاستعماري لا تقرأ الديانة بثوابتها، وإنما تقرؤها منفصلة عن بعضها البعض حتى بلغ الأمر إلى ما بلغ إليه من (علمانية وعَلمَنة الفكر الإسلامي ذاته)، وتطويعه لمصلحة السياسة الاستعمارية وثقافاتها العقلانية المادية، إذ كان علم المتغيرات كامن في صدور المربين العلماء، خلافاً للثوابت المبثوثة في الكتب والمؤلفات. فعمل الاستعمار على عزل الأئمة الصدور عن واقع الدراسة المباشرة للشعوب فدُرِّسَتْ الثوابت منعزلة تماماً عن المتغيرات بل صار المتأثرون بالمتغيرات والخارجون من ثقافتها هم المعنيون بدراسة الثوابت في الشعوب.

ولا بد من التنويه هنا لمسألة الاعتراف الضمني بأهمية العلم النظري المادي، وأن الإسلام لا يقيم حرباً ضد العِلم النظري لئلَّا نعود مرة أخرى لما يسمى بمربَّع العداوة بين الإسلام والعلم النظري. فهذه أسطوانة عزف عليها ورقص المغرضون وجُملة الهَيْشات المفسِدون والدجاجلة العلمانيون والعَلْمَنيون والعَوْلميون. وإنما نحن هنا نقرر حقائق التقعيد الشرعي للعلم الإسلامي والعلم الإنساني ونضع كل علم في مكانه ومكانته مجرداً عن عمليات التسييس المتحول.

وبعد أن فرَّقنا بين اعتناء الإسلام بالعلم كعلم مجرد عن التسييس، وبين الإدعاءات والإشاعات المغرضة عن التضاد المطلق بين العلم والدين، وأن الإسلام يتعارض مع العلم – كما يقال – فنعود إلى الحقيقة التي نحن نَعنيها حول مفهوم الثقافة الإسلامية ومصادرها.

فالإسلام في مادته الشرعية منذ بداية عهد الرسالة لا يتداول مفهوم (الثقافة) كمصطلح لنموذج من العلوم الإسلامية في الواقع الجديد، ولا يوليها اهتماماً لغوياً ولا شرعياً. وتكاد أن تكون اللفظة حديثة التداول في العالم العربي والإسلامي، وقرينة المراحل الثلاث المشار إليها سَلفاً بالعلمانية والعلمنة والعولمة، وبهذا تندرج تحت مستجدات العلوم الحديثة التي ترتبط بمظاهر (علامات الساعة) وتندرج أصولياً في علوم (فقه التحولات). وأساس هذا العلم المستجد مزيج المعارف والفهوم والتجارب والفنون المنبثقة عن تداخل الشعوب بعضها مع بعض تحت مظلة الإستعمار سواءاً بالدراسة المنهجية أو بالتعليم الذاتي القائم على الملاحظة والاحتكاك اليومي.

وللإسلام وجهة نظر في الثقافة:

أولاً – أنَّ الثقافة وليدة المرحلة الاستعمارية وثمرة من ثمراتها، ولا تخلو من السياسة الإستشراقية في أكثر من منحى وأنموذج.

ثانياً – أن سياسة الإستشراق الثقافية وظَّفت المفاهيم الإسلامية في المرحلة الغثائية لمصلحة “أكَلَة القَصعة” ودعم اتجاهاتها الفكرية من خلال تطويع المفاهيم وتطبيع المثقفين وحملة الأفكار والرؤى المتمازجة لهذه المهمة الاستعمارية.

ثالثاً – أنَّ الثقافة الغازية تَغَلْغَلَتْ إلى عقول الأجيال مِن الجنسيْن في عالم الإسلام ضمن برامج ثقافية رأسمالية واشتراكية وتوليفية حتى كونت جيش الثقافات المتحولة وضحايا الفنون والألاعيب المرتذلة، ولعل نظرة واعية إلى الوطن العربي والإسلامي في مخرجاته الثقافية والإعلامية اليوم كافية لمعرفة المدى الذي صنعته هذه السياسات الأجنبية المتلاحقة منذ بداية عهد الغثاء حتى اليوم.

إنَّ عالمنا العربي والإسلام يحتاج إلى دراسة جذرية لما ورد عليه من سلبيات الثقافة الغازية في المرحلة الاستعمارية والاستهتارية والاستثمارية، وما بلغت إليه الحالة الراهنة من الاستتباع المنصوص عليه في أحاديث علامات الساعة كإحدى ظواهر الانحدار الموعود في أمة القرآن والسنة، وإنها لمهمة صعبة تحتاج إلى قواعد شرعية وعقول واعية تدرك معنى كيفية (التحرر) المطلوب من قيود الثقافات الغازية المهيمنة أكثر من معرفتها للتحرر من الهيمنة العسكرية والسياسية.

وحسب علمي المحدود أن علماء المسلمين المعاصرين يصعب عليهم قراءة التحرر الثقافي المشار إليه من مجرد قراءتهم لواقعهم المألوف. فهم في الغالب أسرى لجديد المعارف وهيمنة المصارف، وتكاد كافة معارفهم الشرعية خلال مراحل الاستعمار والاستهتار والاستثمار تنصَب في خدمة التحولات المرحلية بصورة مباشرة وغير مباشرة، ولم يسلم من هذه الخدمة إلا علماء الشعوب الذين انحصرت همومهم في تعليم الأمة ودعوتها إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة بعيداً عن المنهجية السياسية، وأما فقهاء القصعة، وعلماء السلطة ومن ارتبط بمؤسساتهم وتوجهاتهم فهم القوة الفاعلة في نقض الحكم وقبض العلم على مدى تاريخنا المعاصر بعلم وبغير علم …. ولا فخر …

وإذا كان مثل هذا القول مجلبة للإنزعاج والقلق من البعض فإنا نشير إلى رفع الحرج عنهم ما داموا خارج دائرة العلم بالحقيقة المغيبة إذ هم لا يدركون هذا التعليل لغياب فقه الركن الرابع من أركان الدين. أما وقد ظهر لهم هذا العلم الشرعي وتبين الحق جلياً في متعلقات التحول التاريخي ومسبباته فعليهم النظر في أصول وفروع هذا العلم ومقتضياته ومن ثَمَّ تنجلي أسباب الإنزعاج والقلق لدى الراغبين في الحق والعاملين من أجله، وأما غيرهم فأمرهم إلى الله وهو الهادي من يشاء من عباده إلى سواء السبيل.

وإذا ما استجاب الخيِّرون لمثل هذا التعليل المرتبط برباعية الأركان صار أمر الثقافة متعيِّن النفع والإفادة بشرطه مثله مثل بقية العلوم المستجدة في واقع الأمة العربية والإسلامية والإنسانية. والشرط المشار إليه هنا عزل المفاهيم الثقافية السلبية، وإدانتها وحصرها في أهلها، وعدم ترويجها في مجتمعاتنا الإيمانية وإيجاد البديل المشروع المنبثق عن ضوابط الديانة وشرف الأمانة. ومثل هذا الأمر مستحيل في مرحلتنا المعاصرة حيث لا يرضى بهذا التعليل حملة قرار الحُكم، ولا منفِّذو سياسات الثقافة والعلم وهم الذين أشرنا إلى كونهم القوة الفاعلة في تاريخنا المعاصر مرتبطين بأثر الإستتباع وهندسة السياسة الإستعمارية والإستهتارية والإستثمارية في الوطن المغلوب.

أمَّا الذين يعنيهم أمر التبني لتصحيح الفهوم المعرفية عن الثقافة بالخصوص، وعن التعليم والتربية والدعوة إلى الله، وعن بناء جيل الأمانة وشرف الديانة في أمة القرآن والسنَّة. فهم من أُطلق عليهم (علماء الشعوب)، وما لهم من بقايا المؤسسات التقليدية ذات الارتباط والتعليم الأبوي، أي المؤسسات المتحررة في مناهجها ومدارسها وترتيب أوقاتها وأقواتها عن “سياسة الأنظمة المباشرة”، هذه المؤسسات التقليدية التي تعاني منذ بداية مرحلة الإستعمار إلى اليوم من مضايقات الأنظمة وملاحقتها ووصفها بالتخلف والتحجر والجهل والجمود وضيق الأفق وإلى غير ذلك من التُّهَم الجائرة، لأن الأنظمة العربية والإسلامية المشار إليها هنا تعيش – منذ بداية مرحلة الغثاء – مرحلة تسييس وضغوط تمنع رؤوس الحركة وحملة القرار من التعاطف المباشر مع المدارس الأبوية التقليدية، حتى لو كان بعض الشخوص والحكَّام من الموالين المحبين والقادة المهتمين بمصلحة شعوبهم وأوطانهم، وهذا مربط الفَرَس.

وإذا ما أكَّدنا هنا على المعنيين بتبني تصحيح الفهوم المعرفية عن “الثقافة وملابساتها وما يحيط بها و بغيرها” فإنَّا نؤكد أنَّ مفتاح التصحيح ومدخل النجاح الصحيح إعادة القراءة الشرعية لأركان الدين الأربعة، وبها لا بغيرها تنجلي الحقيقة واضحة كالشمس في رابعة النهار.

وأما ما ألِفتهُ الشعوب العربية والإسلامية من القراءة الثلاثية للثوابت فلن يتأتى به دراسة الأمانة ودراسة نواقضها. فالكل يدَّعي الأمانة وسلامة الديانة باعتبار الإيمان بالثوابت، والكل يؤمن بها ويقررها ومن تقريرها أيضاً يختلفون عليها. أما دراسة المتغيرات وهي مادة فقه التحولات والعلم بعلامات الساعة فتُميِّز بين “فقه الأمانة ومرحلة إضاعتها، وفقه الأمر وأهله، وفقه توسيد الأمر إلى غير أهله”، وبها يتضح للمستبصر موقع الثقافة والإعلام والتربية والتعليم والاقتصاد والدعوة من سلامة الأمانة وإضاعتها، ومن سلامة الأمر بيد أهله، ومن فتنة التوسيد وخروجه عن أهله سواءاً في مستوى قرار الحُكم أو قرار العلم أو ما تفرَّع عن ذلك، ولن يكون هذا العلم إلا أمانة علماء الشعوب المتحررين من تبعات الإستتباع المباشر للبرامج الإستعمارية والإستهتارية والإستثمارية.

هذه البرامج المسؤولة عن سلب الأمة الإسلامية هويتها الشرعية منذ بدء سقوط القرار الإسلامي الموحَّد إبان حكم آخر سلاطين الدولة العثمانية والمتمثلة بالسلطان عبد الحميد الثاني، وأما ما ترتب بعد ذلك من تقسيم تركة الرجل المريض كما أطلق عليه، وما تقرر من مؤتمرات للتقسيم والتعتيم فكانت بداية المرحلة الغثائية المقررة في أحاديث من لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وآله وسلم وهي المرحلة التي بدأت بالتداعي ثم الوهن ثم ضياع الأمانة ثم بالتوسيد، وما نشأ بعدها من سياسات الإستعمار القائمة على مبدأ (فرِّق تَسُد)، والمعبَّر عنه في فقه التحولات بحديث: ((فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم)) وفي رواية: ((وتُلهيكم كما ألهتهُم)) [3] ، وهذا نموذج من نماذج “المنافسة” في السياسة والإعلام والإقتصاد والتربية، وما تلا ذلك حتى الديانة وإلى ذلك يشير الحديث الشريف: :((إني لستُ أخشى عليكم أن تُشركوا بعدي، ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها، وتقتتلوا، فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم)) [4] . وبهذا الأمر المشار إليه ظهرت سياسة (المنافسة) منذ عهد الإستعمار، كما برزت ثائرة (التحريش) بين المصلِّين وهي ما أشارت أحاديث أخرى لحديث: ((إنَّ الشيطان قد أيس أن يعبده المُصلُّون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم)) [5] .

وبهذه الدراسة النصية لفقه التحولات وأحاديث العلم بعلامات الساعة تتميز الثقافة الإسلامية عن الثقافة الغازية الإعلامية، ونستعيد ثقافتنا بديننا وثوابتنا، مع عدم غمط حق غيرنا من حملة قرار الثقافات العالمية والدولية المتنوعة، ونقرأ ثقافة المرحلة الإستعمارية، ونقيم هويتها وآثارها، ثم نقرأ ثقافة المرحلة الإستهتارية، ونقيم هويتها وآثارها، ثم نقرأ ثقافة المرحلة الإستثمارية ونقيم هويتها وآثارها إلى اليوم … فهل مِن مُدركٍ يَقِظ؟؟؟

إنَّ الذي يهمنا بعد هذه القراءات المرحلية، العودة إلى الأثر الإسلامي المتداول: ((لن يصلح أمر آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها)) [6] ، وأول ما صَلُحتْ به الأمَّة وِحدة القرار، وسلامة أسباب بناءِ الإستقرار، وإذا ما اهتزت وحدة القرار فلا قرار ولا استقرار، وإنما هو استعمار ونهب ثروات، واستهتار وحضارة صورية تؤدي إلى نجاح سياسة الإستثمار، ولا يبقى للشعوب إلا ما تمسكت به من داخل إيمانها بديانتها، أما ما فوق ذلك فنقض للحُكم وقبض للعلم والعلماء مرحلة بعد أخرى مما يؤدي إلى نقضِ العُرى … ((فكُلما نُقِضت عُروة تشبَّثَ الناس بالتي تَليها، وأولهنَّ نقضاً الحُكم وآخرهن الصلاة)) [7] . وفي رواية أخرى تأكيد نبوي لشمول النقائض والنواقض في الأمَّة بقوله: ((ورُبَّ مُصَلٍّ لا خَلاقَ له)) [8] . ولم تذهب الأمانة عن المصلين إلا بشمول النقائض في التربية والتعليم والثقافة والإعلام والسياسة والإقتصاد والعلاقات وهَلُمَّ جرا …

لقد عِشنا مرحلة طويلة من مراحل حياتنا نبحث بين كتب العلم ومجالس العلماء عن الإجابة الصحيحة فيما يخص النقائض والنواقض والمستجدات، فكان الجواب عدم الجواب، وربما قال البعض: (هذا قضاء الله وقدره فلا اعتراض على القضاء ولا على القدر). ولما شاهدنا مفاصل المعرفة عن القضاء والقدر من خلال هذا الفقه الشرعي وجدنا أن جزءًا من هذا المسمى مرتبط بالعلم الشرعي عن الساعة وأماراتها، ولكنه معطل عن الحركة والفاعلية، وبه يعرف التمييز بين عمل الشيطان وجنوده، وبين الجزء المتعلق بالقضاء والقدر الذي لا اعتراض عليه …

فاستخرنا الله سبحانه وتعالى في خوض غمار هذا العلم، ووجدنا في عصرنا بقية من علماء الشعوب الخاملين الذين يمنحون العلم دون شهادةٍ، ولا مُرتَّب، ولا موعودات وظيفية، فحمدنا الله تعالى عن الأخذ عنهم والإتصال بهم، وشهدنا في مجالسهم ومجالستهم السكينة والإطمئنان والوقوف على العلم من حيث أتى لا مِن حيث سُيِّسَ أو قُبضَ أو نُقضَ. وعرفنا أيضاً سرَّ قولِ السلف الصالح عما لديهم من علوم مكنونة بقول بعضهم: (في صدري كذا كذا عِلم لم أجد لها متأهل) مستدلين بقوله تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ۚ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} [العنكبوت: ٤٩].

ولا أُخفي سراً … وقد أظهرتُ ما عندي من شرف الإتصال بعلماء الشعوب من أهل السند المتصل والعدالة المشروعة، أن نحمد الله أيضاً على ما يسره لي من الدراسة الأكاديمية الحديثة ونيل شروط المعرفة النظرية والتطبيقية لمادتها العلمية المتيسرة لي في بلد اليمن السعيد، وبها – أي بهذه الدراسة – عرفت مفهوم المتغيرات وأربابها ومادتها ومنطلقات أبعادها الخطيرة على الثوابت … وكان من هذا الإطلاع المتنوع بعد طول النظر والدراسة وطلب العون من الله في ما أنا بصدده من إحياء مدلولات رباعية الأركان وإعادة قراءتها الشرعية … فأسأل الله الرعاية والتوفيق والعون في كل حال …

 

 

[1] المقصود بـ(الثقافة) هنا هو ما ورد على الأمة من سياسة التغريب والربط المسيَّس بالفكر الإستشراقي، خلال مراحل الاستعمار والإستهتار والإستثمار، أما أصل كلمة “ثقافة” فقد كانت معروفة في عصر ما قبل ظهور الإسلام وما بعد ظهوره، ومتداولة في اللسان العربي الفصيح، بل وردت في القرآن في أكثر من آية بمعاني متنوعة. كما وردت في الشعر العربي ولكنها كانت محصورة في معانيها اللغوية، وأول من وسَّع استخدام اللفظة في بحثه الاجتماعي العلاَّمة ابن خلدون، حيث تعامل مع هذه الكلمة باعتبارها مفردة لغوية متعارف عليها في اللغة العربية ولم يتعامل معها كمفهوم له من المعاني والدلالات المعنوية والسلوكية والاجتماعية بحيث يكون متطابقاً وقريباً من الفهم والإدراك الذي يتحدد حول الثقافة اليوم. ا.هـ – انظر بحث: هل توجد لدينا نظرية في الثقافة؟ للأستاذ زكي الميلاد مجلة الكلمة (العدد 40 – 2003م).
[2]</a > بدأت هذه المرحلة بسقوط دولة الخلافة العثمانية بدءاً بتنازل السلطان عبدالحميد الثاني.
[3]</a > متفق عليه
[4]</a > صحيح مسلم
[5]</a > صحيح مسلم
[6]</a > عن الإمام مالك بن أنس – انظر شرح سنن أبي داوود للعبَّاد
[7]</a > نص الحديث: ((لتُنقضنَّ عرى الإسلام عروة عروة، فكلما نقضت عروة تشبَّثَ الناس بالتي تليها، وأولهن نقضاً الحُكم وآخرهن الصلاة)) مسند أحمد.
[8] نص الحديث: ((أول ما يُرفعُ من الناسِ الأمانة وآخر ما يبقى من دينهم الصلاة، ورُبَّ مُصلٍّ لا خلاق له)) إسناده صحيح – انظر شرح كتاب الشهاب من حديث زيد بن ثابت.