ما هي طرق نزول الوحي إلى النبي ﷺ ؟

يجيب عن السؤال الشيخ  أنس الموسى

السؤال

ما هي طرق نزول الوحي إلى النبي ﷺ ؟

الجواب

الوحي: هو الإشارة السريعة؛ بأن يُعْلِمَ الله تعالى من اصطفاه من عباده كل ما أراد اطلاعه عليه من ألوان الهداية والعلم، ولكن بطريقة سرِّية خفيةٍ غيرِ معتادة للبشر.
فالوحي: عِرفانٌ يجده الشخص من نفسه مع اليقين بأنه من قبل الله تعالى بواسطة أو بغير واسطة، وهو أشبه بوجدان الجوع والعطش والحزن والسرور. (1)
وللوحي طرقٌ شتى، منها:
  1.  ما يكون مكالمةً بين العبد وربه؛ كما كلَّم الله تعالى سيدنا موسى تكليمًا ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى ‌تَكْلِيمًا﴾ [النساء: 164]
  2.  ما يكون إلهامًا يقذفه الله في قلب نبيه ومصطفاه من خلقه على وجه من العلم الضروري، بحيث لا يستطيع له دفعًا ولا يجد فيه شكًّا.
  3.  ومنه ما يكون منامًا صادقًا يجيء في تحقُّقِه ووقوعه كما يجيء فلقُ الصبح في تبلّجه وسطوعه.
  4.  ومنه ما يكون بواسطة أمين الوحي جبريل عليه السلام، الملك الكريم الذي قال الله تعالى فيه: ﴿ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ‌ذِي ‌الْعَرْشِ ‌مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ﴾ [التكوير: 20-21] وذلك النوع من الوحي هو أشهر الأنواع وأكثرها، ووحي القرآن كلِّه من هذا القبيل، وهو المصطلَح عليه (بالوحي الجلي) كما قال الله تعالى: ﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * ‌بِلِسَانٍ ‌عَرَبِيٍّ ‌مُبِينٍ﴾ [الشعراء: 193-195]
    وقد وضَّحت السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها وبيَّنت كيف كان يأتي الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم، حين قالت: “أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْوَحْيِ ‌الرُّؤْيَا ‌الصَّالِحَةُ ‌فِي ‌النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ، فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ – وَهُوَ التَّعَبُّدُ – اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ، قَالَ: (مَا أَنَا بِقَارِئٍ). قَالَ: (فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الإِنْسَانَ من علق. اقرأ وربك الأكرم}…”. (2)
    وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض كيفيات الوحي، حين سأله الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ، فقال له: كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ؟ فَقَالَ “أَحْيَانًا يَأْتِينِي فِي ‌مِثْلِ ‌صَلْصَلَةِ ‌الْجَرَسِ وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ. ثُمَّ يَفْصِمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُهُ، وَأَحْيَانًا مَلَكٌ فِي مِثْلِ صُورَةِ الرَّجُلِ. فَأَعِي مَا يقول”. (3)
    كما بيَّن الله تعالى في كتابه الكريم كيفيات الوحي لرسوله صلى الله عليه وسلم مجملةً في ثلاث كيفيات، فقال: ﴿‌وَمَا ‌كَانَ ‌لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ﴾ [الشورى: 51]
    وسمى العلماء الكيفيات السابقة بمراتب الوحي، وتفصيلها كالآتي:
    1- الرؤيا الصادقة، كما في حديث السيدة عائشة السابق.
    2- أن يأتي الملك للرسول صلى الله عليه وسلم فيلقي في رُوعه وقلبه من غير أن يراه؛ كما أخبر صلى الله عليه وسلم عن نفسه فقال: ” وَإِنَّ الرُّوحَ الأَمِينَ قَدْ ‌نَفَثَ ‌فِي ‌رُوعِي أَنَّهُ لَيْسَ تَمُوتُ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا فَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ”. (4)
    3-أن يتمثّل للنبي صلى الله عليه وسلم الملَكُ رجلاً فيخاطبه فيعي عنه ما يقول، كما في حديث جبريل عليه السلام، حين أتى للنبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان والساعة. (5)
    4- أن يأتي الملك إلى النبي صلى الله عليه وسلم على حاله الملكية ويوحي إليه فيسمعه ولا يراه، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم هذه الحالة التي كان يأتيه بها الوحي بأنها مثل صلصلة الجرس، كما سبق في سؤال الحارث بن هشام السابق.
    ملحوظة: هذه المراتب الأربعة السابقة متضمَّنةٌ وداخلة في قوله تعالى: ﴿أَوْ ‌يُرْسِلَ ‌رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ﴾ [الشورى: 51]
    5- أن يأتي الملك جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم، ويظهر له في صورته الملكية العظيمة التي خُلق عليها، فيوحي إليه ما شاء الله أن يوحيه. وقد وقع هذا للنبي صلّى الله عليه وسلم مرتين: إحداهما في الأرض، والثانية: في السماء ليلة المعراج عند سدرة المنتهى، كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ رَآهُ ‌نَزْلَةً ‌أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ﴾ [النجم: 13-14]
    6- كلام الله تعالى للنبي من وراء حجاب، كما وقع للنبي صلّى الله عليه وسلم ليلة المعراج حين فُرضت الصلوات، فنودي: “أَمْضَيْتُ ‌فَرِيضَتِي، وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي”. (6) (7)
    والخلاصة: وحي الله سبحانه وتعالى إلى رسله عليهم الصلاة والسلام، إما أن يكون بواسطة أو بدون واسطة وما يكون بدون واسطة فهو ثلاثة أنواع:1- ما يكون منامًا. 2- ما يكون كلامًا. 3- ما يكون إلهامًا، ويطلق عليها الوحي الخفي. وما يكون بواسطة هو النوع الرابع وهو ما يكون بواسطة جبريل عليه السلام، ويسمى بالوحي الجلي (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ* بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [الشعراء:193-195].
    ملحوظات تتعلق بالوحي:
  • الوحي: يقوم على اتصال بين “مَلَكٍ” و”بَشَر”؛ اتصال بين “مَلَك الوحي” جبريل عليه السلام،  وبين الرسول البشر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم أن صفات البشر تختلف عن صفات الملائكة، فحتى يحصل الاتصال بين الملَك والبشر فالأمر يحتاج إلى غلبة البشرية على الملَك فيفهم البشرُ كلامه، أو غلبة الروحانية على البشر فيسهُل على الملك تبليغه. ولتقريب الصورة نقول: حين يكون حديث بين شخصين أحدهما عربي والثاني أعجمي، فإن التفاهم بينهما يحتاج إلى أن يتعلم أحدهما لغة الآخر، وكذلك الحال في الوحي.
  •  يطلق الوحي ويراد به المُوحى به، أي القرآن المنزل على قلب النبي صلى الله عليه وسلم.
  • لملك الوحي جبريل عليه السلام صورًا شتَّى يظهر بها؛ فتارةً يَظهر للرسول في صورته الحقيقية الملكية، وتارة يظهر في صورة إنسان يراه الحاضرون ويستمعون إليه، وتارة يهبط على الرسول خفية فلا يُرى ولكن يظهر أثر هذا بالتَّغيُّر على صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم، فَيَثقُلُ ثِقَلاً شديدًا، وقد يتصبب منه الجبين عرقًا في اليوم الشديد البرد، وقد يكون وقع الوحي على الرسول كوقع الجرس إذا صلصل في أذن سامعيه وذلك أشد أنواع الوحي، وربما يسمعه الحاضرون في مجلس الرسول ولكنهم لا يفقهون شيئًا، أما الرسول صلّى الله عليه وسلم فإنه يسمع ويعي ما يوحَى إليه تمامًا، ويعلم علمًا يقينيًا أن هذا هو وحي الله تعالى دون لبس ولا خطأ، فإذا ما انجلى عنه الوحي وجد ما أوحي إليه حاضرًا في ذاكرته، وكأنه كتب في قلبه كتابة، وقد قال الله تعالى في القرآن مخاطبًا نبيه صلّى الله عليه وسلم: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ ‌لِسَانَكَ ‌لِتَعْجَلَ ‌بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ [القيامة: 16-19] (8)
وأخيراً: الوحي في كل كيفياته أمر عظيم يقتضي من الإنسان حتى يفهمه ويتصوره أن يتجاوز حدود المادة وعالم الشهادة، وإلاَّ وقع في ترَّهات منكري الوحي حين وصفوا الوحي بأنه مرض عصبي أو رِئيٌ من الجن،  أو نوعٌ من الجنون، أو سموه بالوحي النفسي.


(1): ينظر: علوم القرآن نور الدين عتر ص15؛ المنار في علوم القرآن محمد علي الحسن ص56؛ مباحث في علوم القرآن مناع القطان ص28؛ نفحات من علوم القرآن محمد أحمد محمد معبد ص29.
(2): صحيح البخاري (3).
(3): صحيح مسلم (2333).
(4): مسند الشافعي (1798).
(5): ينظر: مسند أحمد (367)
(6):  صحيح البخاري (3674).
(7): ينظر: مناهل العرفان للزرقاني (1/63)؛ علوم القرآن الكريم د. عتر ص17؛ المحرر في علوم القرآن مساعد الطيار ص62؛ دراسات في علوم القرآن فهد الرومي ص185؛ مباحث في علوم القرآن مناع القطان ص34.
(8):نفحات من علوم القرآن محمد أحمد معبد ص29-30.

[الشيخ] أنس الموسى

هو الشيخ الحافظ الجامع أنس الموسى بن محمد بشير من مواليد سوريا – حماة 1974م 

تخرج في المعهد الهندسي قسم الإنشاءات العامة بدمشق، وتخرج في جامعة الأزهر كلية أصول الدين تخصص الحديث النبوي. 

قرأ على كبار علماء دمشق، منهم الشيخ عبد الرحمن الشاغوري والشيخ أديب الكلاس وغيرهم.

حفظ القرآن وأُجير به وبالقراءات العشر المتواترة،  على الشيخ بكري الطرابيشي والشيخ موفق عيون، كما وتخرج من مدرسة الحديث العراقية.

درس الكثير من المواد الشرعية في المعاهد الشرعية في سوريا وتركيا.

إمام وخطيب لمدة تزيد على 15 سنة.

مدرس للقرآن الكريم بمختلف قراءاته ورواياته.

حالياً يعمل كمدرس في مؤسسة سيكيرز، ومسؤول التوجيه الأكاديمي فيها.

أنهى مرحلة الماجستير في الحديث النبوي، وهو الآن يكمل في مرحلة الدكتوراه بنفس التخصص، متزوج ومقيم في إستانبول.