ما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم (اقرأوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم فإذا اختلفت فقوموا عنه)؟

 يجيب عن السؤال الشيخ عبد السميع ياقتي

السؤال

ما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم (اقرأوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم فإذا اختلفت فقوموا عنه)؟

الجواب

الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على سيدنا محمد و على آله و صحبه أجمعين ، و بعد :

معناه كما قال العلماء: اقْرَءُوا القرآن وَالْزَمُوا الِائْتِلَافَ و الاجتماع عَلَيه و على مَا دَلَّ عَلَيْهِ من خير من حصول علم و نفع ، مع الحضور و الخشوع و التدبر فيه، فَإِذَا وَقَعَ الملل أو الِاخْتِلَافُ في القراءة أَوْ عَرَضَ عَارِضُ شُبْهَةٍ يَقْتَضِي الْمُنَازَعَةَ الدَّاعِيَةَ إِلَى الِافْتِرَاقِ و التنازع و الفتنة بين المسلمين؛ فَاتْرُكُوا الْقِرَاءَةَ و فُضّوا ذلك المجلس، وَتَمَسَّكُوا بِالْمُحْكَمِ الْمُوجِبِ لِلْأُلْفَةِ، وَأَعْرِضُوا عَنِ الْمُتَشَابِهِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْفُرْقَةِ، و الله أعلم.

البيان و التفصيل :

ورد هذا الحديث الشريف في كتب الصحاح و السنن، فعَنْ سيدنا جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْبَجَلِيِّ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و سلم أنه قَالَ: «اقْرَؤُوا الْقُرْآنَ مَا ائْتَلَفَتْ عليه قُلُوبُكُمْ، فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ فَقُومُوا عَنْهُ» و في رواية : «فتَفَرَّقُوا عنه». متفق عليه (1)
و قد ذكر العلماء -شرَّاح الحديث في الصحيحين و غيرهما (2) – عدةَ أقوال في بيان المعنى المراد منه، و خلاصتها :
قَوْله صل الله عليه و سلم : «مَا ائتلفت عليه قلوبكم» ، أي :
– مَا اجتمعت عليه قلوبكم في فهم معناه
– ما توافقت عَلَيْهِ الْقِرَاءَة.
– اقرؤُوه على نشَاطٍ منكم وخواطِرُكم مجموعةٌ (قلوبكم حاضرة)

و قوله صلى الله عليه و سلم : «فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ فَقُومُوا عَنْهُ» ، أي :
– حصول الاختلاف في أوجه الْقِرَاءَة.
– حصول الملل و عدم حضور القلب
– حصول اختلاف لا يجوز، أو يوقع فيما لا يجوز: كاختلافهم في تفسير القرآن، أو اختلافهم في معان لا يسوّغ فيها الاجتهاد. وأما الاختلاف في فروع الدين أو فيما يحتمل التأويل، فأمر لابد منه في الشرع

و قوله : «فتَفَرَّقُوا عنه» : أي قوموا عنه لِئَلَّا يَتَمَادَى بِكُمْ الِاخْتِلَافُ إِلَى الشَّرِّ  و التخاصم و التشويش  أو  الملل و عدم الحضور و الخشوع

و على هذا فيكون المعنى العام للحديث :

اقْرَءُوا القرآن وَالْزَمُوا الِائْتِلَافَ و الاجتماع عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ وَقَادَ إِلَيْهِ مع الحضور و الخشوع و التدبر فيه، فَإِذَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ في القراءة أو الملل أَوْ عَرَضَ عَارِضُ شُبْهَةٍ يَقْتَضِي الْمُنَازَعَةَ الدَّاعِيَةَ إِلَى الِافْتِرَاقِ فَاتْرُكُوا الْقِرَاءَةَ، وَتَمَسَّكُوا بِالْمُحْكَمِ الْمُوجِبِ لِلْأُلْفَةِ، وَأَعْرِضُوا عَنِ الْمُتَشَابِهِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْفُرْقَةِ.

 فقه الحديث و ما يرشد إليه:

أورد الإمام مسلم هذا الحديث في بَاب :” النَّهْيِ عَنِ اتِّبَاعِ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ، وَالتَّحْذِيرِ مِنْ مُتَّبِعِيهِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الِاخْتِلَافِ فِي الْقُرْآنِ”(3)
فذكره بعد حديث السيدة عَائِشَةَ رضي الله عنها، حيث قَالَتْ: «تَلَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ ﴾ [آل عمران 7]، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللهُ فَاحْذَرُوهُمْ.»(4)

و من خلال ما سبق فإن هذا الحديث يدل على عدة أمور ، منها:

1-     التَّحْذِيرُ مِنْ مُخَالَطَةِ أَهْلِ الزَّيْغِ وَأَهْلِ الْبِدَعِ وَمَنْ يَتَّبِعُ الْمُشْكِلَاتِ لِلْفِتْنَةِ، فَأَمَّا مَنْ سَأَلَ عَمَّا أَشْكَلَ عَلَيْهِ مِنْهَا لِلِاسْتِرْشَادِ وَتَلَطَّفَ فِي ذَلِكَ؛ فَلَا بَأْسَ عَلَيْهِ وَجَوَابُهُ وَاجِبٌ، وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا يُجَابُ بَلْ يُزْجَرُ وَيُعَزَّرُ … كما قال الإمام النووي في شرح مسلم (5).

2-    التحذير من مشابهة حال أهل الكتاب و اختلافهم عليه كما روى عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قَالَ: « هَجَّرْتُ [بكَّرتُ] إِلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه و سلم- يَوْمًا قَالَ: فَسَمِعَ أَصْوَاتَ رَجُلَيْنِ اخْتَلَفَا فِي آيَةٍ فَخَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه و سلم- يُعْرَفُ فِي وَجْهِهِ الْغَضَبُ فَقَالَ: إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِاخْتِلَافِهِمْ فِي الْكِتَابِ .» رواه مسلم (6)
و الْمُرَادُ بِهَلَاكِ مَنْ قَبْلَنَا هُنَا هَلَاكُهُمْ فِي الدِّينِ بِكُفْرِهِمْ وَابْتِدَاعِهِمْ فَحَذَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مِثْلِ فِعْلِهِمْ

3-    الْأَمْرُ بِالْقِيَامِ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ فِي الْقُرْآنِ مَحْمُولٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ عَلَى اخْتِلَافٍ لَا يَجُوزُ، أو اختلاف يُوقِعُ فِيمَا لَا يَجُوزُ ، كَاخْتِلَافٍ فِي نَفْسِ الْقُرْآنِ ،أَوْ فِي مَعْنًى مِنْهُ لَا يُسَوَّغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ ، أَوِ اخْتِلَافٍ يُوقِعُ فِي شَكٍّ أو شبهة أو فتنة وخصومة أو شجار و حصول فُرْقة بين المسلمين وَنَحْوِ ذَلِكَ ،
وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ فِي اسْتِنْبَاطِ فُرُوعِ الدِّينِ مِنْهُ، وَمُنَاظَرَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْفَائِدَةِ وَإِظْهَارِ الْحَقِّ، وَاخْتِلَافُهُمْ فِي ذَلِكَ فَلَيْسَ مَنْهِيًّا عَنْهُ ؛ بَلْ هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ وَفَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هَذَا مِنْ عَهْدِ الصَّحَابَةِ إِلَى الْآنِ.. كما قال الإمام النووي في شرح مسلم (7).

4-    لم يَأْمُرهُم بترك قِرَاءَة الْقُرْآن إِذا اخْتلفُوا فِي تَأْوِيله: لإِجْمَاع الْأمة على أَن قِرَاءَة القرآن لمن فهمه وَلمن لم يفهمهُ، فَدلَّ على أَن قَوْله: قومُوا عَنهُ على وَجه النّدب لَا على وَجه التَّحْرِيم في هذه الحال. (8)

5-    يحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ خَاصًّا بِزَمَنِهِ صلى الله عليه و سلم:
– لِئَلَّا يَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِنُزُولِ مَا يَسُوؤُهُمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ [المائدة 101]،
– أو  لأنه لا وجه للخلاف والتنازع حينئذ -لا في حروفه ولا في معانيه- وهو – عليه الصلاة والسلام – حاضر معهم، يرجعون إليه في مشكِلِهِ، ويقطع تنازعهم ببيانه

6-    يَحْتَمِلُ أَنَّهُ يَنْهَى عَنِ الْقِرَاءَةِ -إِذَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي كَيْفِيَّةِ الْأَدَاءِ و القراءات- بِأَنْ يَتَفَرَّقُوا عِنْدَ الِاخْتِلَافِ، وَيَسْتَمِرَّ كُلٌّ مِنْهُمْ عَلَى قِرَاءَتِهِ

 كما حصل مع بعض الصحابة كسيدنا عمر بن الخطاب و أبي بن كعب و عبد الله بْنِ مَسْعُود رضي الله عنهم، فَتَرَافَعُوا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: كُلُّكُمْ مُحْسِنٌ و أقرهم على قراءتهم.

فهذه أهم ما ذكره العلماء من أحكام و إرشادات دلَّ عليها الحديث والله أعلم.(9)

و بناء على ما سبق :

يوجهنا هذا الحديث الشريف إلى قراءة القرآن و الاجتماع عليه و مدارسته و مذاكرته و تعلّمه و تعليمه، خاصة في أوقات النشاط و حضور القلب و حصول النفع ، أما إذا كان هناك في المجلس من يريد أن يشوش على الحاضرين و يبث الشبه و يثير الخلاف و الفتنة بين المسلمين؛ فعند ذلك يجب فضُّ هذا المجلس، و الله أعلم

المصادر و المراجع :

1- صحيح البُخاريُّ: رقم (5060)، و صحيح مُسْلِم : رقم (2667).
2- ينظر الكتب التالية:
-فتح الباري بشرح البخاري ، لابن حجر العسقلاني ، المكتبة السلفية – مصر،  [9\101]
-منحة الباري بشرح صحيح البخاري للإمام زكريا الأنصاري، مكتبة الرشد ، الرياض، [8\321]
-اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح ، للإمام شمس الدين البِرْماوي، دار النوادر، سوريا،[13\155]
-شَرْحُ صَحِيح مُسْلِمِ لِلقَاضِي عِيَاض المُسَمَّى إِكمَالُ المُعْلِمِ بفَوَائِدِ مُسْلِم، دار الوفاء، مصر، [8\160]
-المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، للإمام النووي ، دار إحياء التراث العربي – بيروت، [16\218]
3- كتاب: صحيح مسلم، دار الطباعة العامرة – تركيا،  [8\56]
4- صحيح مُسْلِم : رقم (2665).
5- شرح صحيح مسلم، للإمام النووي ، [16\218]
6- صحيح مُسْلِم : رقم (2666).
7- شرح صحيح مسلم، للإمام النووي ، [16\218]
8- عمدة القاري شرح صحيح البخاري، للإمام العيني ،نشر و تعليق و تصحيح مجموعة من العلماء بمساعدة إدارة الطباعة المنيرية،  [25\76]
9- ينظر الكتب التالية و غيرها مما سبق:
-فتح الباري بشرح البخاري ، لابن حجر العسقلاني، [9\101]
-شَرْحُ صَحِيح مُسْلِمِ لِلقَاضِي عِيَاض، [8\161]
-شرح صحيح مسلم، للإمام النووي ، [16\218]

[الشيخ] عبد السميع ياقتي

الشيخ عبد السميع ياقتي عالم إسلامي من علماء سورية، مواليد حلب 1977م

نال الإجازة في الشريعة من كلية الشريعة جامعة دمشق، ودبلوم التأهيل التربوي من كلية التربية جامعة حلب، ودبلوم الشريعة والماجستير في الشريعة من كلية الشريعة والقانون جامعة أم درمان في السودان، وهو الآن بصدد إعداد أطروحة الدكتوراة في جامعة محمد الفاتح في إسطنبول

تتلمذ على أكابر العلماء: كالشيخ عبد الرحمن الشاغوري، والشيخ مصطفى التركماني، والشيخ الدكتور نور الدين عتر، رحمهم الله، والشيخ الدكتور محمود مصري، والعلامة الحبيب عمر بن سالم بن حفيظ و الشيخ عمر بن حسين الخطيب والشيخ محمد الأمين الشنقيطي وغيرهم من علماء الشام وحضرموت والإمارات.

عمل في مجال التدريس والتوجيه الثقافي في دار الأيتام وفي ثانويات حلب، وكان إماماً وخطيباً وقارئاً في مسجد الشيخ زايد في أبو ظبي، ومدرباً معتمداً للخطباء في برنامج تأهيل الخطباء في أبو ظبي

و يقوم بإعداد و تدريس برنامج تعليم الشباب في سيكرز عربية للعلوم الشرعية

للشيخ مؤلفات أهمها: إمام الحرمين الجويني بين علم الكلام وأصول الفقه، وبرنامج (رسول الله فينا) ﷺ