ما المقصود من قول الله تعالى: (واستعينوا بالصبرِ والصلاةِ وإنَّها لكبيرةٌ إلاَّ على الخاشِعين)؟

يجيب عن السؤال الشيخ أنس الموسى

 

السؤال 

ما المقصود من قول الله تعالى: (واستعينوا بالصبرِ والصلاةِ وإنَّها لكبيرةٌ إلاَّ على الخاشِعين)؟

الجواب

بسم الله الرحمن الرحيم

هذه الآية الخامسة والأربعون من سورة البقرة، وقبل أن نبدأ ببيانها لابد من النظر في سباقها وسياقها

 

يقول الله تعالى مخاطباً بني إسرائيل: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٤٠) وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٤١) وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) ✷ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (٤٤) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (٤٥)﴾ [البقرة: 40-45]

ولفهم المقصود بهذه الآية لا بد من توضيح بعض الأمور:

1-(وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ): من أهل التفسير من حصر الخطاب (واستعينوا) بالمؤمنين المصدِّقين بمحمد صلى الله عليه وسلم وبرسالته؛ لأنَّ من ينكر الصلاة أصلاً والصبرَ على دين محمد صلى الله عليه وسلم؛ لا يكاد يُقال له: استعن بالصبر والصلاة.
وقيل: لا يمتنع أن يكون الخطاب أولاً لبني إسرائيل، ثم يقع بعد ذلك خطاباً للمؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن اليهود لم ينكروا أصل الصلاة والصبر، لكن صلاتَهم غيرُ صلاة المؤمنين. (1)

 

 2- (بالصبر): الصبر هو حبس النفس عما تُنازِع إليه، ومنه صبرُ صاحب المصيبة، أن يَحبسَ نفسه عن الجزع.
وسُمِّي الصوم صبراً؛ لحبس النفْس عن الطعام والشراب؛ ولذلك سُمِّي شهرُ رمضانَ بشهر الصبرِ.
فالصبر المأمور به في الآية إمَّا أنَّه: الصبرُ المشتمل على نوعي الصبر وهما: الصبر على طاعة الله تعالى، والصبر عن معصيته، بمعنى الكفُّ عنها.
أو أنَّه: الصوم بمعنى الامتناع عن شهوة البطن والفرج؛ لأن الصوم يسمى صبراً كما سَلَف. (2)
ووجه اقتران الصلاة بالصبر (الصوم): أن الصيام يمنع من الشهوات ويزهّد في الدنيا، والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وتُخَشِّعُ، ويُقرأ فيها القرآن الذي يذكِّر الآخرة. (3)

 

3- قدِّم الصوم على الصلاة (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ)؛ لأن تأثير الصوم في إزالة ما لا ينبغي، وتأثير الصلاة في حصول ما ينبغي، والنفي مقدم على الإثبات، والصائم صابر عن الطعام والشراب، ومَن حَبَسَ نفسه عن قضاء شهوة البطن والفرج زالت عنه كدورات حُبِّ الدنيا، فإذا انضاف إليه الصلاة استنار القلب بأنوار معرفة الله تعالى. (4)

 

4- (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ): خَصَّ الصلاة بالذكر من بين سائر العبادات بالأمر، وجَعَلَها جنساً أشرف وأعلى من غيرها؛ للعلة التي أناط بها إقامَتَها، وهو تذكُّر المعبود وشُغلُ القلب واللسان بذكره، وقد كان عليه الصلاة والسلام إذا حزبه أمرٌ فزع إلى الصلاة.

 

5- (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ): اخْتُلِفَ في عَوْدِ الضَّمِيرِ هل يعود على الصلاة وحدها خاصة، أم يعود على الصبر والصلاة؟
ومن قال يرجع الضمير على الصلاة عَلَّلَ بأن الصلاة فيها سجن النفوس، والصوم – على تأويل الصبر بالصوم – إنما فيه منع بعض الشهوات، وليس مَن مُنِعَ شهوةً واحدة أو شهوتين كمن مُنِعَ جميع الشهوات، فالصائم إنما مُنع شهوة النساء والطعام والشراب، ثم ينبسط في سائر الشهوات من الكلام والمشي والنظر، إلى غير ذلك من ملاقاة الخلق فيتسلى بتلك الأشياء عما مُنع، أمَّا المصلي فإنه يمتنع من جميع ذلك فجوارحه كلُّها مقيدةٌ بالصلاة عن جميع الشهوات؛ وإذا كانت الصلاة فيها سجن النفوس، كانت أصعب على النفس، ومكابدتها أشد؛ لذلك قال تعالى: (وإنها لكبيرة) أي ثقيلة شاقة.
وقيل قدمت الصلاة على الصبر في: ( وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ)؛ لأنها أرفع منزلةً منه، لأنها تجمع ضروبًا من الصبر، إذ هي حبس الحواس على العبادة، وحبس الخواطر والأفكار على الطاعة، ولهذا قال الله تعالى: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ}. (5)
(إلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ): جمع خاشع وهو المتواضع. والخشوع: هيئة في النفس يظهر منها في الجوارح سكون وتواضع والخاشعون: المتواضعون المخبتون. (6)
ولم يقل: على الخاضعين؛ لأن هناك فرق بين الخشوع والخضوع؛ فالخضوع قد يكون تكلفاً عن نفاق أو خوف أو تقية، والعرب تقول: خشع قلبه ولا تقول: خضع إلاَّ تجوزاً. أما الخشوع فهو من أفعال القلوب ويكون عن انفعال صادق بجلال من نخشع له وهو الله تعالى. (7)
قيل: الواو في قوله: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ)، بمعنى: على، وتقديره: استعينوا فيما ينوبكم بالصبر على الصلاة. (8)
ملحوظة: لا يوجد ما يمنع أن يكون المقصود بالصلاة في الآية، معناها اللغوي، وهو الدعاء.

المعنى العام للآية:

(وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ): يقول الله تعالى آمراً عبيده فيما يؤملون من خير الدنيا والآخرة: اطلبوا المعونة على أموركم، وَاسْتَعِينُوا على حوائجكم، وعلى ما يستقبلكم من أنواع البلاء، وعلى طلب الآخرة إلى اللَّه تعالى بالجمع بين حبس النفس على ما تكره؛ بأن تصلُّوا صابرين على تكاليف الصلاة، محتملين لمشاقِّها وما يجب فيها من إخلاص القلب، وحفظ النيات، ودفع الوساوس ومراعاة الآداب، والاحتراس من المكاره، مع الخشية والخشوع، واستحضار العلم بأنه انتصاب بين يدي جبار السموات والأرض، واسألوه فك رقابكم من سخطه وعذابه. (9)
أو: استعينوا على ترك ما تحبون من الدنيا، والدخول فيما تستثقله طباعكم من قبول دين محمد صلى الله عليه وسلم بحبس النفس عن اللذات، فإنكم إذا كَلَّفْتُم أنفسكم ذلك مَرِنَت عليه وخَفَّ عليها، ثم إذا ضممتم الصلاة إلى ذلك تم الأمر. (10)
( وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا ‌عَلَى ‌الْخَاشِعِينَ ﴾: أي وإنها ثقيلة على من لم يخشع، فمن لا يعتقد في فعلها ثواباً ولا في تركها عقاباً، فيصعب عليه فعلها. فالملحد إذا لم يعتقد في فعلها منفعة ثقُل عليه فعلها، لأن الاشتغال بما لا فائدة فيه يَثقُل على الطبع، أما الموحِّدُ فلمَّا اعتقد في فعلها أعظم المنافع وفي تركها أعظم المضار لم يثقُل ذلك عليه، لِما يعتقد في فعله من الثواب والفوز العظيم بالنعيم المقيم والخلاص من العذاب الأليم؛ لذلك قال ربنا في الآية التي بعدها: (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) [البقرة: 46] أي يتوقعون نيل ثوابه والخلاص من عقابه، ويتوقعون ما ادخر للصابرين على متاعبها فتهون عليهم. (11)
وأخيراً: إطاعة الأوامر الإلهية وعدم مخالفتها تتطلب الصبر، ومن صبر عن المعاصي فقد صبر على الطاعة، ومن أخص حالات الصبر: الصلاة؛ فالصلاة فيها سجن النفوس، وجوارح الإنسان فيها مقيدةٌ بها عن جميع الشهوات، فكانت الصلاة أصعب على النفس، وكانت مكابدتها أشق، كما أنَّ المصاعب كلها تهون أمام الخاشعين المتواضعين المخبتين إلى الله، الموقنين بلقاء الله، المصدقين بالبعث والجزاء والعرض على الملك الأعلى الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم


(1):ينظر: تفسير فتوح الغيب للرازي (3/489)؛ تفسير الخازن (1/42)؛ العجاب في بيان الأسباب ابن حجر العسقلاني (1/253).
(2):ينظر: تفسير الماوردي = النكت والعيون (1/115)؛ تفسير ابن كثير ().
(3):ينظر: تفسير القرطبي (1/372)؛ المحرر الوجيز في تفسير القرآن العزيز لابن عطية (1/137).
(4):تفسير فتوح الغيب للرازي (3/490).
(5):ينظر: تفسير القرطبي (1/371)-(1/373)؛ حاشية الطيبي على الكشاف “فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب” (10/142)- (15/420)؛ التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور (1/479).
(6): ينظر:  تفسير القرطبي (1/374)؛ المحرر الوجيز لابن عطية (1/137).
(7):من روائع البيان في سور القرآن مثنى هبيان (1/243).
(8):تفسير الثعلبي (3/273).
(9):تفسير الزمخشري (1/134).
(10): ينظر: فتوح الغيب للرازي (3/490)؛ تفسير ابن كثير (1/251).
(11): ينظر: تفسير الفخر الرازي (3/491)؛ تفسير البيضاوي (1/78)؛ تفسير النسفي (1/86).