ما المقصود بقوله تعالى: (ووجدك ضالاً فهدى)؟

 يجيب عن السؤال الشيخ  أنس الموسى 

السؤال

ما المقصود بقوله تعالى: (ووجدك ضالاً فهدى)؟

الجواب

بسم الله الرحمن الرحيم

هذه الآية في سورة الضحى {وَوَجَدَكَ ضَالًا فَهَدَى} [الضحى: 7] ذكرها الله عز وجل في معرض ذكر المِنن التي امتنَّ الله تعالى بها على نبيه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم.

 هذه الآية الكريمة يوهم ظاهرها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ضالاًّ قبل الوحي، وكأني بالسائل يريد أن يَعْلَم هل كان النبي صلى الله عليه وسلم على ضلال قبل البعثة، ثم هداه الله تعالى بعد ذلك؟

 

والجواب عن هذا من وجوه:

 

  • لا يمكن حمل الضلال في هذه الآية على ما يقابل الهدى؛ لأن الأنبياء عليهم السلام معصومون من ذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم ما كفر بالله طرفة عين. قال القاضي عياض: والصواب أنهم معصومون قبل النبوة من الجهل بالله وصفاته، والتشكك في شيء من ذلك، وقد تعاضدت الأخبار والآثار عن الأنبياء بتنزيههم عن هذه النقيصة، منذ ولدوا، ونشأتهم على التوحيد والإيمان .. (1) 
  • فليس معنى الضلالة في الآية الكفر، أو أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان على دين قومه؛ لأن الأنبياء معصومون عن ذلك كما سبق. بل قالت المعتزلة: هذا غير جائز عقلاً، لما فيه من التنفير. (2) 
  •  وإنما المراد بالضلال: الغفلة عن معرفة أحكام الشرائع، فهدى الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم إلى مناهجها وكيفياتها. أي: وجدك غافلاً عن أحكام الشرائع حائرًا في معرفة أصح العقائد، فهداك لذلك، كما قال تعالى: {وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا، ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ، وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا} [الشورى 52/ 42] (3) أو: وجدك حائراً لا تُقْنِعُك هذه المعتقداتُ التي حولك فهداكَ الى خيرِ دينٍ وأحسنِ منهاج؛ أَيْ كنت غَافِلًا عَمَّا تَعْلَمُهُ الْآنَ مِنَ الشَّرَائِعِ وَأَسْرَارِ عُلُومِ الدِّينِ الَّتِي لَا تُعْلَمُ بِالْفِطْرَةِ وَلَا بِالْعَقْلِ، وَإِنَّمَا تُعْلَمُ بِالْوَحْيِ، فَهَدَاكَ إِلَى ذَلِكَ بِمَا أَوْحَى إِلَيْكَ، فَمَعْنَى الضَّلَالِ الذَّهَابُ عَنِ الْعِلْمِ، ومنه قوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282] (4) 
  • ذكر الإمام الرازي في تفسيره بأن بعض الناس ذهب إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان على دين قومه في أول الأمر، ثم هداه الله وجعله نبياً، وأن أصحاب هذا الرأي احتجوا على رأيهم بقوله تعالى: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ} [الشُّورَى: 52]، وبقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ} [يُوسُفَ: 3]…ثم رد الرازي على هذا الرأي فقال: وعند أصحابنا هذا غير ممتنع عقلاً؛ لأنه جائز في العقول أن يكون الشخص كافرًا فيرزقه الله الإيمان ويكرمه بالنبوة، إلاَّ أن الدليل السمعي قام على أن هذا الجائز لم يقع، وهو قوله تعالى: {مَا ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى} [النَّجْمِ: 2]
  • قوله تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي ‌فَطَرَ ‌النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الروم: 30] يدل على أنه صلى الله عليه وسلم فُطر على هذا الدين الحنيف، ومعلوم أنه لم يهوده أبواه ولم ينصِّراه ولم يمجِّساه، بل لم يزل باقياً على الفطرة حتى بعثه الله رسولاً، ويدل لذلك ما ثبت من أن أول نزول الوحي كان وهو يتعبد في غار حراء، فذلك التعبد قبل نزول الوحي دليل على البقاء على الفطرة. (5) 
  • نقلت كتب التفسير أقوالاً كثيرة في تفسير الضلال في الآية، أحدها: ضالاًّ عن معالم النبوة، وأحكام الشريعة، فهداك إليها. أي: وجدك غافلاً عما أوحاه إليك من الهدى والفرقان، فهداك إليه وجعلك إماما له. 
  • الثاني: أنه ضَلَّ وهو صبي صغير في شعاب مكة، فردَّه الله إلى جده عبد المطلب.
  •  الثالث: أنه لما خرج مع ميسرة غلام خديجة أخذ إبليس بزمام ناقته، فعدل به عن الطريق، فجاء جبريل، ورده إلى القافلة، فمنَّ الله عليه بذلك.
  • الرابع: ووجدك في قوم ضُلَاّل، فهداك للتوحيد.
  •  الخامس: ووجدك ضالاً أي ناسياً؛ كما في قوله تعالى: {أنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} [البقرة: 282] فهديتك أي ذكرتك، وذلك أنه ليلة المعراج نسي ما يجب أن يقال بسبب الهيبة، فهداه الله تعالى إلى كيفية الثناء، حتى قال: «لا أحصي ثناء عليك».
  •  السادس: وجدك خاملاً لا تُذْكَر ولا تُعْرَف، فهدى الناس إليك حتى عَرَفوك.
  • السابع: العرب تسمي الشجرة الفريدة في الفلاة ضالَّة، كأنه تعالى يقول: كانت تلك البلاد كالمفازة ليس فيها شجرة تحمل ثمر الإيمان بالله ومعرفته إلا أنت، فأنت، شجرة فريدة في مفازة الجهل، فوجدتُكَ ضالاًّ فهديتُ بكَ الخلق، ونظيره: الحكمة ضالة المؤمن. 
  • الثامن: وجدك ضالاًّ عن معرفة الله تعالى حين كنتَ طفلاً صبياً، كما قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ ‌بُطُونِ ‌أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [النحل: 78] فخلق فيك العقل والهداية والمعرفة، فالمراد من الضال: الخالي عن العلم لا الموصوف بالاعتقاد الخطأ. 
  • التاسع: كنت ضالاًّ عن النبوة ما كنت تطمع في ذلك ولا خطر شيء من ذلك في قلبك، فإن اليهود والنصارى كانوا يزعمون أن النبوة في بني إسرائيل، فهديتك إلى النبوة التي ما كنتَ تطمع فيها البتة.
  • العاشر: ضالاًّ عن القِبلة، فإنه كان يتمنى أن تُجعلَ الكعبة قِبلةً له، وما كان يعرف أن ذلك هل يحصل له أم لا، فهداه الله بقوله: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ‌فَلَنُوَلِّيَنَّكَ ‌قِبْلَةً ‌تَرْضَاهَا﴾ [البقرة: 144] فكأنه سمي ذلك التحيُّر بالضلال. (6)  

 

وأخيراً:

 لا يُفهم من الضلال في الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان على وثنية قبل الاهتداء إلى التوحيد، أو على غير السبيل القويم، حاشى لله، إن ذلك لهو الإفك المبين، وإنما هي الحَيرة تُلِمُّ بقلوب أهل الإخلاص، فيما يرجون للناس من الخلاص، وطلبِ السبيل إلى ما هدوا إليه من إنقاذ الهالكين، وإرشاد الضالين، وقد هدى الله نبيه إلى ما كانت تتلمَّسُهُ بصيرته باصطفائه لرسالته، واختياره من بين خلقه لتقرير شريعته”. (7)

وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


(1):الشفاء بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض 2/ 719.
(2):ينظر: تفسير مفاتيح الغيب للرازي (31/198)؛ التفسير المنير للزحيلي (30/288).
(3):مفاتيح الغيب للرازي (31/197)؛ التفسير المنير للزحيلي (30/283).
(4):ينظر: دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب محمد أمين الشنقيطي ص274؛  تيسير التفسير إبراهيم القطان (3/438).
(5):دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب محمد الأمين الشنقيطي ص274.
(6):ينظر لكل ما سبق: تفسير مفاتيح الغيب للرازي (31/198)، زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي (4/458)؛ تفسير القرطبي (20/96)؛ تفسير البيضاوي (5/319)؛ تفسير ابن كثير (8/426)؛ شرح الشفا ملا علي القاري (1/97)؛ روح المعاني للآلوسي (15/381)؛ موسوعة التفسير بالمأثور (23/333).
(7):مباحث في علوم القرآن مناع القطان ص47.