لماذا كان نزول القرآن على النبي ﷺ متفرقا وليس مرة واحدة؟

يجيب عن السؤال الشيخ  أنس الموسى

السؤال

لماذا كان نزول القرآن على النبي ﷺ متفرقا وليس مرة واحدة؟

الجواب

بسم الله الرحمن الرحيم

القرآن الكريم نزل مفرقاً على قلب خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم، على فترات استغرقت أكثر من عشرين عاماً. وكان من وراء نزوله مفرقاً مقاصدُ وحِكَم.
كما أنَّ نزول القرآن على قلب المصطفى صلى الله عليه وسلم ليس كنزول بقية الكتب السماوية، فقد نزل القرآن الكريم مفرقاً في حين نزلت الكتب السماوية الأخرى دفعة واحدة.
والدليل على تفرق هذا النزول وتنجيمه قول الله تعالت حكمته في سورة الإسراء: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} [الإسراء:106] وقوله في سورة الفرقان: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً * وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} [الفرقان: 32-33]
روي أن الكفار من يهود ومشركين عابوا على النبي صلى الله عليه وسلم ‌نزول ‌القرآن ‌مفرقًا واقترحوا عليه أن ينزل جملة فأنزل الله هاتين الآيتين ردًّا عليهم. (1)

ولتفريق نزول القرآن الكريم أسرار عدة وحكم كثيرة نستطيع أن نجملها في: (2)

أولاً: تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم وتقوية قلبه وذلك من وجوه هي:

  • أن في تجدد الوحي وتكرار نزول الملَك به من جانب الحق إلى رسوله صلى الله عليه وسلم سرورًا يملأ قلب الرسول وينشرح به صدره، بسبب ما يشعر به من العناية الإلهية في كل نوبة من نوبات هذا النزول.
  •  أن في تفريق النزول تيسيرًا على النبي من الله تعالى في حفظه وفهمه ومعرفة أحكامه وحكمه.
  • أن في كل مرة من مرات النزول المفرَّق للقرآن، غالباً ما تأتي معه معجزة جديدة؛ يتحدى القرآن بها في كل مرة الكافرين أن يأتوا بمثله، فظهر عجزهم عن المعارضة وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، ولا شك أن المعجزة تشدُّ أزر النبي صلى الله عليه وسلم باعتبارها مؤيدةً له ولحزبه، خاذلة لأعدائه ولخصمه.
  • كانت الخصومة بين النبي صلى الله عليه وسلم، وبين أعدائه تزداد، وكانت الشدائد تنزل بالنبي في أوقات متعددة، وكان قلب النبي يحتاج للتسلية مع هذه الشدائد، فكلما أحرجه خصمه سلاَّه ربه، وتجيء تلك التسلية تارةً عن طريق قَصص الأنبياء والمرسلين التي لها في القرآن غرض طويل وفيها يقول الله تعالى: {وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: 120]، وتارة تجيء التسلية عن طريق وعد الله لرسوله بالنصر والتأييد والحفظ كما في قوله سبحانه: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48]، وتارة تأتي تسلية قلب النبي عن طريق إبعاد أعدائه وإنذارهم نحو قوله تعالى: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ}[القمر: 45]، وقوله سبحانه : {فَإِنْ أَعرضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:13]، وتارة أخرى ترد التسلية في صورة الأمر الصريح بالصبر نحو قوله جل شأنه في سورة الأحقاف: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35].

ثانياً: التدرج في تربية هذه الأمة الناشئة علمًا وعملاً، وذلك من خلال:

  • تيسير حفظ القرآن على الأمة الأمية التي نزل فيها القرآن، فلم تكن أدوات الكتابة متوفرة لدى الكاتبين منهم على ندرتهم، فلو نزل القرآن جملة واحدة لعجزوا عن حفظه فاقتضت الحكمة العليا أن ينزله الله إليهم مفرقًا ليسهل عليهم حفظه ويتهيأ لهم استظهاره.
  • تسهيل فهمه عليهم كذلك كما سبق في توجيه التيسير في حفظه.
  • التمهيد لكمال تخليهم عن عقائدهم الباطلة وعباداتهم الفاسدة وعاداتهم المرذولة؛ وذلك بأن يُراضوا على هذا التخلي شيئاً فشيئاً بسبب نزول القرآن عليهم كذلك شيئًا فشيئًا فكلما نجح الإسلام معهم في هدم باطل انتقل بهم إلى هدم آخر وهكذا يبدأ بالأهم ثم بالمهم حتى انتهى بهم آخر الأمر عن تلك الأرجاس كلها.
  • تثبيت قلوب المؤمنين وتسليحهم بعزيمة الصبر واليقين بسبب ما كان يقصُّه القرآن عليهم الحين بعد الحين من قَصص الأنبياء والمرسلين، وما كان لهم ولأتباعهم مع الأعداء والمخالفين وما وعد الله به عباده الصالحين من النصر والأجر والتأييد والتمكين، كقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55]

ثالثاً: مسايرة الحوادث والطوارىء في تجددها وتفرقها

  •  فكلما جدَّ منهم جديد نزل من القرآن ما يناسبه، وفصَّل الله لهم من أحكامه ما يوافقه، كإجابة السائلين على أسئلتهم عندما يوجهونها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، سواء أكانت تلك الأسئلة لغرض التثبت من رسالته صلى الله عليه وسلم، أم كانت لغرض التنور ومعرفة حكم الله تعالى.
  • مجاراة الأقضية والوقائع في حينها ببيان حكم الله فيها عند حدوثها ووقوعها، وتلك الأقضية والوقائع لم تقع جملة بل وقعت تفصيلاً وتدريجًا فلا مناص إذن من فصل الله فيها بنزول القرآن على طبقها تفصيلاً وتدريجًا، مثل حادثة الإفك.
  • لفت أنظار المسلمين إلى تصحيح أغلاطهم التي يخطؤون فيها وإرشادهم إلى الصواب في الوقت نفسه. ولا ريب أن تلك الأغلاط كانت في أزمان متفرقة فمن الحكمة أن يكون القرآن النازل في إصلاحها متكافئًا معها في زمانها أيضاً.

رابعاً: الإرشاد إلى مصدر القرآن وأنه كلام الله وحده

  • إذ لا يمكن أن يكون القرآن كلام محمد صلى الله عليه وسلم ولا كلام مخلوق سواه؛ لأننا نقرأ القرآن الكريم من أوله إلى آخره فنراه سبيكة واحدة لا يكاد يوجد بين أجزائه تفكك ولا تخاذل، فنتساءل عن سرِّ هذا التناسق المدهش ونحن نعلم أنه لم يتنزل جملة واحدة بل تنزل آحادًا مفرقةً تَفرُّق الوقائع والحوادث في أكثر من عشرين عامًا، فيأتينا الجواب: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء 82].
وأخيراً: هذا كتاب ربنا سبحانه وتعالى كله أسرار وحكم، فهو  كالغيث كلما نزل أحيا موات الأرض وازدهرت به، ونزوله مرة بعد مرة أنفع من نزوله دفعة واحدة.
وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

(1):  ينظر: مناهل العرفان للزرقاني (1/53).
(2): أفدت هذه الحكم من كتاب مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني بتصرف (1/52).

[الشيخ] أنس الموسى

هو الشيخ الحافظ الجامع أنس الموسى بن محمد بشير من مواليد سوريا – حماة 1974م 

تخرج في المعهد الهندسي قسم الإنشاءات العامة بدمشق، وتخرج في جامعة الأزهر كلية أصول الدين تخصص الحديث النبوي. 

قرأ على كبار علماء دمشق، منهم الشيخ عبد الرحمن الشاغوري والشيخ أديب الكلاس وغيرهم.

حفظ القرآن وأُجير به وبالقراءات العشر المتواترة،  على الشيخ بكري الطرابيشي والشيخ موفق عيون، كما وتخرج من مدرسة الحديث العراقية.

درس الكثير من المواد الشرعية في المعاهد الشرعية في سوريا وتركيا.

إمام وخطيب لمدة تزيد على 15 سنة.

مدرس للقرآن الكريم بمختلف قراءاته ورواياته.

حالياً يعمل كمدرس في مؤسسة سيكيرز، ومسؤول التوجيه الأكاديمي فيها.

أنهى مرحلة الماجستير في الحديث النبوي، وهو الآن يكمل في مرحلة الدكتوراه بنفس التخصص، متزوج ومقيم في إستانبول.