لماذا بدأت بعض السور بالحروف المقطعة وما معناها؟

يجيب عن السؤال الشيخ  أنس الموسى

السؤال

لماذا بدأت بعض السور بالحروف المقطعة وما معناها؟

الجواب

بسم الله الرحمن الرحيم

الحروف المقطعة هي: حروف التهجِّي التي افتتحت بها بعض سور القرآن، وهي في تسع وعشرين سورة منه، مثل: “ألم” و ” كهيعص” و “حم”، و “طه”، و “يس”….، وقد ذكر العلماء أقوالاً كثيرة جداً في السر من افتتاح بعض السور بها.
نقل الإمام السيوطي عن الإمام الزركشي بعض الحِكَم في ذلك فقال: ” افتتاح السور بالحروف المقطعة واختصاص كلّ واحدةٍ بما بُدئت به، حتى لم تكن ترد (آلم) في موضع (آلر) ولا (حم) في موضع (طس). وذلك أن كل سورة بدئت بحرف منها، فإن أكثر كلماتها وحروفها مماثل له، فحُقَّ لكل سورة منها ألاَّ يناسبها غير الوارد فيها، فلو وضع ” ق ” موضع ” ن “، لم يمكن، لعدم التناسب الواجب مراعاته في كلام الله..”.(1)
و يقوي هذا الرأي أنه جرت عادة القرآن العظيم في ذكر هذه الحروف أن يُذكر بعدها ما يتعلق بالقرآن، كقوله تعالى: (الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ)، (يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ)، (طه* ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى)..، إلاَّ في ثلاث سور هي: العنكبوت، والرّوم، و نّ، ليس فيها ما يتعلق به. (2)
وقال بعض أهل العلم: إن افتتاح السور بالحروف المقطعة فيه تنبيه على الإعجاز، وأن القرآن كلام مؤلفٌ من هذه الحروف التي يتألف منها سائر الكلام: (ال م رص ط هـ ك ع ق) فهو حروف وكلمات، وسور وآيات .
والحقيقة إن معرفة السر والحكمة من افتتاح هذه السور بهذه الحروف مرتبط بإدراك معناها، وقد تباينت أراء العلماء في ذلك. قال الزركشي وقد اختلف الناس في الحروف المقطعة أوائل السور على قولين: أحدهما: أن هذا عِلم مستور وسرٌّ محجوب استأثر الله به، ولهذا قال الصدّيق رضي الله عنه: في كل كتاب سر وسره في القرآن أوائل السور. قال الشعبي: إنها من المتشابه نؤمن بظاهرها ونكل العلم فيها إلى الله عز وجل.
القول الثاني: إن المراد منها معلوم وذكروا فيه ما يزيد على عشرين وجهًا فمنها البعيد ومنها القريب. وذكر بعض هذه الأقوال(3)
وأكثر العلماء من المفسرين واللغويين قالوا في بيانها: إنها أسماء للسور التي افتتحت بها، وسمِّيت بها. (4) وقد ورد في السنة ما يؤيد هذا الرأي ومن ذلك: أَنّ النبي صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، يَوْمَ الْجُمُعَةِ: “الم” تَنْزِيلُ السَّجْدَةِ، ‌وَهَلْ ‌أَتَى ‌عَلَى ‌الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ”. (5)
وذكر بعض أهل العلم أن المقصود منها بيانٌ وإشارةٌ إلى إعجاز القرآن؛ وكأن القرآن يخاطب العرب أرباب الفصاحة قائلاً: إن هذا القرآن منتظمٌ من عين الحروف التي تتكلمون بها، ومع ذلك أنتم عاجزون عن الإتيان بمثله، فلولا أنه رباني المصدر لما أعجزكم عن مجاراته.(6)
ملحوظة: رد ابن قتيبة على قال: إن هذه الحروف المقطعة هي من المتشابه الذي استأثر الله تعالى بعلمه، فقال: ” لو لم يكن للراسخين في العلم حظٌّ في المتشابه إلاَّ أن يقولوا: (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) [آل عمران: 7]- لم يكن للراسخين فضل على المتعلمين، بل على جهلة المسلمين، لأنهم جميعًا يقولون: (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا). وقال أيضاً: “فإنّا لم نر المفسرين توقّفوا عن شيء من القرآن فقالوا: هذا متشابه لا يعلمه إلا الله، بل أمرُّوه كلَّه على التفسير، حتى فسروا الحروف ‌المقطّعة. ونَقل عن ابن عباس أنه قال: كلّ القرآن أعلم إلاّ أربعًا: غِسلين، وحَنَانًا، والأوّاه، والرّقيم. وكان هذا من قول ابن عباس في وقت، ثمّ عَلِم ذلك بعدُ.(7)
 وذكر ابن قتيبة أقولاً كثيرة في تفسير الحروف المقطعة فقال: فكان بعضهم يجعلها أسماء للسور، تُعرف كلُّ سورة بما افتتحت به منها. وكان بعضهم يجعلها أقسامًا (من القَسَم).وكان بعضهم يجعلها حروفًا مأخوذة من صفات الله تعالى، يجتمع بها في المفتَتَح الواحد صفاتٌ كثيرة، كقول ابن عباس: في (كهيعص)[مريم: 1] : إنّ (الكاف) من كافِ، و (الهاء) من هادِ، و (الياء) من حكيم، و (العين) من عليم، و (الصاد) من صادق. و قال الكلبيّ هو: كتابٌ كافٍ، هادٍ، حكيمٍ، عالمٍ، صادقٍ…
وقال معللاً وجه كونها للقسم: “وإنما أقسم الله بحروف المعجم، لشرفها وفضلها، ولأنها مباني كتبه المنزلة بالألسنة المختلفة، ومباني أسمائه الحسنى وصفاته العلى، وأصول كلام الأمم، بها يتعارفون، ويذكرون الله ويوحّدون”(8)
وأخيراً: أقول للأخ السائل سواء أدركنا الحكمة من افتتاح بعض السور بالحروف المقطعة أم لم ندرك سيبقى القرآن الكريم كتابنا، ودستورنا، ونبراسنا، وسيبقى جُنةً، ورفعةً ، وهدايةً، وسبيلَ إسعادٍ ودربَ أمان.  فالحمد لله على نعمة القرآن، حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه.
وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

(1): ينظر: معترك الأقران في إعجاز القرآن للسيوطي (1/55)؛ الإتقان للسيوطي (3/383).
(2): معترك الأقران للسيوطي (1/56).
(3): ينظر: البرهان في علوم القرآن للزركشي (1/173).
(4): تفسير أبو السعود (1/20)، الإتقان للسيوطي النوع الستون (3/361).
(5): صحيح مسلم (879).
(6): ينظر: التفسير المنير للزحيلي (12/200).
(7): ينظر: تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ص67؛ المسائل والأجوبة في الحديث والتفسير لابن قتيبة ص216؛ الانتصار للقرآن للباقلاني (2/776).
(8):  ينظر: تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ص182،ص183؛ الهداية إلى بلوغ النهاية في علم معاني القرآن وتفسيره وأحكامه وجمل من فنونه مكي بن أبي طالب (1/121).

[الشيخ] أنس الموسى

هو الشيخ الحافظ الجامع أنس الموسى بن محمد بشير من مواليد سوريا – حماة 1974م 

تخرج في المعهد الهندسي قسم الإنشاءات العامة بدمشق، وتخرج في جامعة الأزهر كلية أصول الدين تخصص الحديث النبوي. 

قرأ على كبار علماء دمشق، منهم الشيخ عبد الرحمن الشاغوري والشيخ أديب الكلاس وغيرهم.

حفظ القرآن وأُجير به وبالقراءات العشر المتواترة،  على الشيخ بكري الطرابيشي والشيخ موفق عيون، كما وتخرج من مدرسة الحديث العراقية.

درس الكثير من المواد الشرعية في المعاهد الشرعية في سوريا وتركيا.

إمام وخطيب لمدة تزيد على 15 سنة.

مدرس للقرآن الكريم بمختلف قراءاته ورواياته.

حالياً يعمل كمدرس في مؤسسة سيكيرز، ومسؤول التوجيه الأكاديمي فيها.

أنهى مرحلة الماجستير في الحديث النبوي، وهو الآن يكمل في مرحلة الدكتوراه بنفس التخصص، متزوج ومقيم في إستانبول.