لابد أن تقرأ بقلم الحبيب أبي بكر المشهور

رؤية ثاقبة للداعية الأديب الحبيب أبو بكر المشهور يقدم فيها نظرة على الذين ينقدون الواقع ولا يملكون أفكارا لتغييره، تشمل الحديث عن الشرعية الدولية الحالية التي نشرت مشاكل الأمم والشعوب، وشرح حال الأمة وواقعها وما تفرع عن النشاط العالمي الموجود الآن، وموقف الإسلام من تحليل الأمور الحالية من خلال دراسته للثوابت والمتغيرات، وحقيقة العقل الإنساني، وبيان المشروع العالمي الإسلامي، وبيان الجوانب الإيجابية من خدمة العلوم النظرية، ومسئوليتنا الشرعية تجاه الإسلام، ووضع اللبنات القائمة على الفكر والديانة وابتعاث الأمانة.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

قال أحد المعلقين المعاصرين في غمرة النشوة بالتغيير: «الدساتير العربية لا تساوي الورق التي كُتبت عليها»، وكنت حينها أتابع مجريات التحولات وأتأمل وجهات النظر حولها، وقلت في نفسي: «لو أنَّ أحداً قال لهذا المعلق وأشباهه إذا كانت دساتيركم العربية كما تقولون لا تساوي الورق التي كُتبت عليها فأين هو الدستور الحق الذي ستتخذونه بديلاً للأمة في حياتها الجديدة؟ وهل ستقبل العقول المدبلجة قولي أنَّ دستور الأمة هو القرآن والسنة؟ ولكن ليس بلغة اللجان القانونية المسيَّسة ولا العصبية ولا الطائفية ولا المذهبية ولا الطبقية المتترسة والمتمرسة ولا الاستشارات الشرقية ولا الغربية …
فمنذ تقسيم «ترِكة الرجل المريض» كما كان «أكَلَة القصعة» يسمونها لم تكن هناك دساتير شرعية بقدر ماكانت مجرد دساتير وضعية تؤدي دوراً مرحلياً يخدمُ حَمَلة القرار وزُمرة العملاء الأحرار، دساتير اكتسبت شرعيتها المحلية والإقليمية من ميثاق الشرعية الدولية المسماة بـ «الأمم المتحدة»، والأمم المتحدة عُصبة من القرارات الإستعمارية والعناصر الإستثمارية ذات العلاقة المباشرة بالثلاثي الآفك (الشيطان – الدجال – الكفر) إنه الثلاثي الهالك للأمم والشعوب وثرواتها، والثلاثي المسيس عالميًا لما يسمى في لغة الأبلسة بالشرعية الدولية ذات العلاقة المباشرة بالمصالح الإستعمارية والإستهتارية والإستثمارية.
هذه الشرعية المسؤلة مسؤلية مباشرة عن الفقر والجوع والعوز المنتشر في الشعوب، وعن القلق والإضطراب الإجتماعي والسياسي والإقتصادي والأمني والتربوي والتعليمي والثقافي والإعلامي منذ أن وَضَعت يدها ونفوذها على مقدرات الأمم المصيرية بُعيدَ سُقوط قرار الخلافة العثمانية … الخ
ومنذُ ذلك الحين ونحن في مَصيَدةٍ عالمية القوة، عالمية النفوذ، عالمية السياسة، عالمية الأدوار، عالمية المصالح، ويمكن معرفة فـقـراتها المفصلية بالنظر إلى (المؤتمرات الدولية) التي عقدت منذ إقتسام (تركة الرجل المريض) وماتلاها من النتائج والثمرات السياسية والعسكرية والأحلاف والتكتلات والبرامج والمنظمات والجماعات والجمعيات والأحزاب وماشابهها من التشكيلات المتجددة ضمن الإطار العالمي الدولي المشار إليه «بالشرعية الدولية»، وقد تفرع هذا النشاط العالمي وتغلغل في العالم المستعمر والمستثمر منذ تلك الحَقبة بمفاصلها الثلاثة

مرحلة العلمانية: والمُبتدئة رسميًا من إعلان مصطفى أتاتورك دستور الدولة العثمانية الجديد وإرتباط دستور الدولة بالإستعمار،
ثم مرحلة العلمَنة: والمُتفرعة من المرحلة التي تسبقها بتخرج طلبة الدول العربية والإسلامية الموفدين إلى العالم الغربي والشرقي ليتبؤا مناصب العمل الخَدَماتي بكل نماذجِه، وتنفيذ البرامِج العلمية والإقتصادية والسياسية والتربوية والتعليمية والدعوية والإعلامية والثقافية في الوطن المستعمر،
ثم مرحلة العولَمة: وهي المرحلة المعاصرة ذات النجاح الإستثماري الجامع لأطراف التحول المشار إليه سلَفا بمسمى البرامج العلمية والإقتصادية والسياسية والتربوية والتعليمية والدعوية والإعلامية والثقافية … الخ ليؤدي إلى إنشاء فكرة النظام العالمي الموحد، النظام المهيمن سياسيا على كل أطراف الصراع والمسيس له وفق الأطر المعدة سلَفا في المطابخ المَاسونية والصَهيونية.

إن العدو هو العدو وكل ما ساعد العدو على إنجاح برامجه وإمتداد هيمنته فهو جزء منه، ومنتمٍ إليه ولو كان مظهره ديانة وشعاراته وطنية ومنطلقاتُه ثَورية، فالعناوين والشعارات والمظاهر مجرد ركائز ورموز، وإنما المُعَول في التحليل الشرعي الواعي، على ماوراءِ ذلك من الخطط والمشروعات والأجِندات المُهيئة بعبَاءاتها الملونة ومُسمياتِها الإسلامية أو الإعلامية.
وللإسلام الحق موقف واعٍ من تحليل هذه الأمور وتحقيق دقائقها المجهولة، وكشفِها للمُستبصِر المُتأمل في عَظَمَة الدين الإسلامي ووظائِفه الشرعية في قيادة الحياتين (الدنيا والآخرة) من خِلال الدراسة المتأنية للثوابت الثلاثة بتفاصيلها وأركانها العلمية والعملية [1] من جهة ثم الدراسة المتأنية للمتغيرات بأقسامها الثلاثة[2] وتفاصيلها الخمسة [3] المندرجة تحت مايسمى بعلم علامات الساعة وفقه التحولات من جهة أخرى، وهذا هو موضوعنا العلمي الشرعي وأطروحتنا للجيل المعاصر ومن سيأتي من الأجيال اللاحقة.
فالعلم بالأركان الأربعة للدين مهمتنا جميعا وهويتنا المستجدة المتجددة القادرة بإذن الله تعالى على وضع المخارج الفقهية لكافة المعضلات الفكرية المعاصرة سواءًا في عالمنا العربي والإسلامي أو في تحديد موقفنا من العالم الإنساني المتنوع بفصائله المتعددة من أهل الكتاب، وأهل الأوثان، وأهل الإلحاد واللادينيين، وإنسان الغابة ومجاهل القارات بل وفيه أيضا خُطط عَلاقتنا بالمشاريع الإنسانية القادمة في مراحل التاريخ المتحول كمرحلة الدجال ويأجوج ومأجوج، وغيرها من المراحل الصعبة في ثوابتنا النصية المشروعه.
ولعلها اليوم بالنسبة لنا مجرد «مسميات» لانعلم عنها شيئا غير نتف المعلومات المختلف عليها، ولكنها في حقيقة العلم «خريطة الطريق» المنتظر وُرُوده لكافة شعوب الأرض شَأوا أم أبَوا، علِموا أم لم يعلَموا، صَدقوا بذلك أم كَذبوا.
فالعقـل الإنساني على مدى تاريخه الطويل وهو يُعلن جُحُودَه ورَفضه وتحدّيه للحقائق الربانية تبعًا لغـرائز الطبع وشهوات النفس ووساوس الشياطين، ولايكبح هذه الغرائز والشهوات والوساوس إلا العلم الشرعي برباعية الأركان، ودراسة هذه الأركان مجتمعةً مع بعضها البعض في ماعرَّفناه في كتابِنا «دوائر الإعادة ومراتب الإفادة» بالوحدة الموضوعية لحَديث أم السنة (حديث جبريل عليه السلام).
إنه مشروعنا العالمي في مدلول «العالمية الاسلامية»، عالميتنا التي تذوِّب في إشراقاتِها العلمية والعملية كافة العناوين والمسميات المُتمرحلة محليًّا وإقليميًّا وعالميًّا، علمانيةً أوعلمنيةً أوعولميةً، استعمارًا أوإستهتارًا أوإستثمارًا، فكلها في قاموسِنا الإسلامي الرباعي مراحل قَزَميَّة لاتتعدى عند تعريفنا لها «كيد الشيطان وعبث الدجال وعمَالة الدجاجلة» وكلها مشاريع عقلانية وضعية دعمها الشيطان الرجيم بصوتِه وخيلِه ورجِلِه وشارك البشرية من خلال برامجه الإبليسية في الأموال والأولاد وألهاهم بما زيَّنَه وصوَّرَه إعلاميا وأفلاميا {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ ۖ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [النساء: ۱۲۰] وهذا هو الجانب السلبي المسيس والذي نحن بصدد كشفه والتحذير منه.
أما الجانب الإيجابي من خدمة العلوم النظرية وتوظيفها فيما ينمى حياة البشرية فلا خلاف عليه، هكذا يحَلِّل ويُفصِّل (الإسلام الصحيح) واقع الحياة الإنسانية، كما يحلِّل ويفصِّل أيضًا واقع الحياة الإسلامية التي تحولت وللأسف بِفِعل البرامج الإبليسية إلى حياة إسـتسلاميَّة ولَن يَكون (إستنهاض) لشعـوب الـقـرآن والـسنة بما هي عـليه من الإستتباع المبرمج سياسيًا وإعلاميًا وثقافيًا وإقتصاديًا وإجتماعيًا ودينيًا فهذه برامج قصيرة المدى توظِّف الدين بأصليه الكتاب والسنة كما توظِّف شعاراته «العبادة، الجهاد، التكافل، الإخاء، المحبة، الرحمة، السلام … الخ» توظيفًا مسيسًا يربط الأطراف العربية والإسلامية والإنسانية على إختـلاف مـتـنـاقـضـاتـها ومـصـالـحـها وأفكارها وأديانها ومطامحها ومطامعها لتحقيق المسيرة الكبرى المذكورة في حديث من لاينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم ((لتتَّبعنَّ سَنَنَ من كان قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع حتى لو دخلوا جُحر ضَب لدخلتموه…قالوا يارسول الله اليهود والنصارى؟؟ قال ومن؟؟))
قِف معي هُنا وقفةَ إجلالٍ لسيد الأمَّة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم الذي حرَّره الله بالوحي والعصمة والأخلاق عن كافة الشرور والآثام والأ مراض والأعراض المُـتَـقَـولِـبة في الأمم السابقة، وجعله للأمم اللاحقة قدوة وأسوة في ذاتِه وصفاتِه وعلمِه وعملِه ومواقـفِه ودلالاتِه وكـل ماجاء به من عـندِ الله سبحانه وتعالى أنه مشروع العالم الأخـير، مشروع السعادة مشروع الأمان والأمن والإطمِئنان، المشروع المتناسب مع كافة الحضارات الماضية والحاضرة، بل والمشروع المهيمن عليها، والموجَّه لغاياتها والبَوصلة الشرعية لرسم طريق السلامة في لُجج البِحار المُـتـلاطمة عبر التاريخ كله مُـنذُ عَهد آدم وخِلافته الأولى في الأرض بالرسالة حتى عهد نبينا محمد خاتم كل نبوة ورسالة.
إن مسـؤلـيـتـنـا الـشرعـية كأمَّة إسلامية تَلزمُنا أن ندعوا الإسلاميين أولا كما يطلق عليهم اليوم من كافة الأحزاب والجماعات والفئات والتيارات والتوجهات للخروج من دائرة البوتقة الـمـسـيـسـة والمبرمجة والمُخَندَقة ضمن مُسَمَّيات السياسة أو الديانة « قديمةً أو حديثةً» لتظل المسميات مجرَّد عناوين تعريفية لاتكـلـيفية، ونعود معًا بإسلامياتنا العالمية ومصادرها الثابتة «الكتاب والسنة» لأحداث التثوير الشرعي بالعلم والقراءة الواعية لموروثنا الرباني غير منفصلين عن العلوم الشرعية الأخـرى ومـتـفـرعاتها بل آخذيـن بها كمادة تأصيل علمي شرعي، ومراجع معرفية ذات قـيمة عـلـمـية وعملية تخدم الإطار الإسلامي الخاص في المذاهب والجماعات والفئات، ولاتكون حجة لأحد ضد أحد، وإنما تُنَظِّم علاقات التعبُّد والأحكام الفرعية فقط.
أما مانحن بصدده من الوحدة الفكرية والوحدة الشرعية والوحدة الإيمانية ووحدة المواقف وعالمية الديانة، فلا علاقة لها بهذه التراكمات المرحلية بمسمياتها العصبية كالطائفية والقبلية والسلالية والطبقية وصراع المذهبية والعقدية والفئوية والتيارية والحزبية، وماشاكلها من عناوين الاحتناك الشيطاني في الشعوب.
بل يجب أن تنشأ العقلية الإسلامية العالمية حاملةً الركنية الرباعية والمنطلقة في معالجة الأمور من خارج دائرة التعامل الآثم مع كتل الشرعية الدولية والمنظمات السياسية والإجتماعية والأحزاب التقـدمية والوطنية، والمسميات الإقلـيمية والعشائرية المطلعة إطلاعًا واعيًا على قاموس الإسلام العالمي بدءً بمفهومنا الشرعي عن مدلول السياسة العالمية في الاسلام وعلاقتها بالسياسات العلمانية والعلمنية والعولمية ووضعها في حجمها المناسب من المراحل المتقدمة وإدانتها إدانة علنية بكل مقوماتها الإستعمارية والإستثمارية.
ثم تذويبها في (عالمية الإسلام) لتظل تابعةً لا متبوعة، وأداةُ توظيفِ لا توصيف ولا تكليف ننتفع بما فيها من شؤون العلم والحضارة وتوظيفها في ما يتناسب مع حاجتِنا لها، ونستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ومشاريعه الحضارية الكافرة، وأطروحاته الدجَّالية الفاجرة.
وبهذا نكون قد وضعنا اللبنة الأولى لمرحلة الاستنهاض القادم … اللبنة الأولى القائمة على الفكر والديانة وابتعاث الأمانة قـبل صراخنا الجهادي الفج، ونداءاتنا العسكرية المتطرفة، وانخراطنا مع كل ناعـق وكـاذب وصادق، وانجرارنا خلف كل ذي دعـوةٍ سياسية وبرنامجٍ اقتصادي أو اعتقادي محـدث «نُخَبِّطُ لا ندري الطريق إلى الهدى» حتى إذا ما مرَّ الزمان وانكشفت العورات أعلن الشيطان وجنوده سقوط الرُّموز أو قتلها أو كشف حقيقة سياستها.
وعدنا إلى المربع الأول (كما يقولون) وإلى نقطة الصفر نقلب أيدينا ونَعُضُّ على أنامل الندم باحثين عن ثورةٍ جديدة ورمزٍ جديد ومشروعٍ إسلامي مُصنَّع أو مُـقَـنَّع.
أيُّـها السادة والقادة ألم يحن الوقت لمعرفة الحقيقة المرَّة ؟ أليس فينا رجل رشيد ؟ خذوا وريقاتي وادرسوها، واصمتوا سنةً كاملة، وانظروا ماذا في ساحة الحركة من صراعٍ! ثم ارجعوا إلى ما يشار به عليكم من شرف الإرتباط برباعية الأركان المشروعة عبر الدراسة الواعية، وميِّـزوا إن كان هناك من يرغب الخير ويصطفيه.

وأسال الله التوفيق والسداد للجميع
والحمد لله رب العالمين

 

[1] الثوابت الثلاثة: الإسلام – الإيمان – الإحسان.
[2] المتغيرات:علامات الساعة وفقه التحولات وأقسامه الثلاثة (العلامات الصغرى والوسطى والكبرى).
[3] التفاصيل الخمسة: علم النواقض والنقائض – علم البشارات والسند والحصانة والوقاية – علم الكوارث والإشراط – علم المستجدات العلمية والثقافية – علم الربط بين الديانة والتاريخ