فوائد إيمانية من قصة آدم {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} للشيخ علي هاني

يستمر الشيخ الأستاذ علي هاني في تفسيره لسورة البقرة، محاولا تبيين الفوائد اللغوية فيها وغير ذلك، وفي هذا الجزء يتناول ذكر الفوائد الإيمانية لآية {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} من خلال إيراد أقوال المفسرين فيها، وبيان مناسبة من سؤال الملائكة، مع ذكر بعض الأوجه اللغوية المتعلقة بها وأقوال العلماء فيها.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

المناسبة: فقال تعالى حكاية عن الملائكة جواباً لسؤال من كأنه قال: فماذا قالت الملائكة حينئذ وما قالوا حين أخبرهم سبحانه بذلك”؟ قال: قالوا طالبين الإيقان على الحكمة في إيجاد من يقع منه شر أتجعل فيها أي في الأرض من يفسد فيها) فهواستئنافٌ وقعَ جواباً عما تنساقُ إليه الأذهانُ

فصل الكلام ولم يعطف بالواو:
وفصل الجواب ولم يعطف بالفاء أوالواوجريا به على طريقة متبعة في القرآن في حكاية المحاورات وهي طريقة عربية قال رؤية بن العجاج. قالت بنات العم يا سلمى وإن … كان فقيرا معدما قالت وإن وإنما حذفوا العاطف في أمثاله كراهية تكرير العاطف بتكرير أفعال القول فإن المحاورة تقتضي الإعادة في الغالب فطردوا الباب فحذفوا العاطف في الجميع وهوكثير في التنزيل وربما عطفوا ذلك بالفاء لنكتة بلاغية

معنى الاستفهام:
أ- التعجب والاستعظام من أمر الخلافة مع الصفات التي يعرفونها عن المرشح للخلافة من الإفساد وسفك الدماء أي التعجب في خلق نوع من الكائنات وجعله خليفة مع أنه يصدر منه المعاصي الإفساد في الأرض وسفك الدماء مع وجود أهل الطاعة والعصمة وهم الملائكة فهم أولى بالخلافة منه ـ مع أنه سبحانه الحكيم العليم
ب- والاستعلام والاستفهام والاستخبار عن الحكم التي ألغت تلك المفاسد بحيث يستخلفه مع وجود تلك المفاسد بحيث تزيح شبهتهم وترشدهم لمعرفة ما فيه من الفضائل مع تسليمهم بتلك الحكمة وأنها موجودة ولكن لا يعرفونها على التفصيل قال الآلوسي: فالمسؤول عنه هوالجعل ولكن لا باعتبار ذاته بل باعتبار حكمته ومزيل شبهته
ت- وليس على وجه الاعتراض على اللّه تعالى ولا شكاً في اشتماله على الحِكمة والمصلحة إجمالاً ولا على وجه الحسد لبنى آدم كما قد يتوهمه البعض ولا يجوز أن يكون هذا الاستفهام إنكاريا أومشوبا بالإنكار
ث- وقطعهم بحكمة اللّه في كل ما يفعل لا ينافي تعجبهم من بعض أفعاله، لأن التعجب يصدر عن خفاء سبب الفعل، فمن تعجب من فعل شيء وأحب الاطلاع على الحكمة الباعثة على فعله لا يعد منكرا

وبما سبق يعرف جواب السؤال القائل الملائكة معصومون فكيف وقع منهم هذا الاعتراض

قال أبوالسعود:
وأنت خبير بأن مدارَ تعجُّبِهم ليس خلقَ من يُفسد في الأرض، كيف لا وإن ما يعقُبه من الجملة الحالية الناطقة بدعوى أحقِّيتِهم منه يقضي ببُطلانه حتماً إذ لا صِحَّة لدعوى الأحقية منه بالخلق وهم مخلوقون، بل مدارُه أن يُستخلف لعمارة الأرض وإصلاحِها بإجراء أحكامِ الله تعالى وأوامرِه أويُستخلفَ مكان المطبوعين على الطاعة مَنْ مِنْ شأنِ بني نوعِه الإفسادُ وسفكُ الدماء. وهوعليه السلامُ وإن كان منزهاً عن ذلك إلا أن استخلافَه مستتبِعٌ لاستخلاف ذرّيتِه التي لا تخلوعنه غالباً، وإنما أظهروا تعجُّبَهم استكشافاً عما خفِيَ عليهم من الحِكَم التي بدت على تلك المفاسد وألغَتْها، واستخباراً عما يُزيح شبهتَهم ويرشدهم إلى معرفة ما فيه عليه السلام من الفضائل التي جعلتْه أهلاً لذلك، كسؤال المتعلم عما ينقدِحُ في ذهنه لا اعتراضاً على فعل الله سبحانه ولا شكاً في اشتماله على الحِكمة والمصلحة إجمالاً، ولا طعناً فيه عليه السلام ولا في ذريته على وجه الغَيْبة، فإن منصِبَهم أجلُّ من أن يُظَنَّ بهم أمثالُ ذلك، قال تعالى: {بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} {وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ} جملة حاليةٌ مقررة للتعجب السابق ومؤكدةٌ له على طريقة قول من يجِدُّ في خدمة مولاه وهويأمرُ بها غيرَه أتستخدمُ العُصاةَ وأنا مجتهدٌ فيها كأنه قيل: أتستخلفُ من شأنُ ذريته الفسادُ مع وجود مَنْ ليس من شأنه ذلك أصلاً؟ والمقصودُ عرضُ أحقيتِهم منهم بالخلافة واستفسارٌ عما رجَّحهم عليهم مع ما هومتوقَّعٌ منهم من الموانع لا العُجبُ والتفاخرُ

قال ابن كثير:
وإنما هوسؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك، يقولون: يا ربنا، ما الحكمة في خلق هؤلاء مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء، فإن كان المراد عبادتك، فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك، أي: ولا يصدر منا شيء من ذلك، وهلا وقع الاقتصار علينا؟

قال المطعني الخلاصة:
• الاستفهام في الآية استفهام تعجب واستعظام نشأ عن دهشة الملائكة من أمر الخلافة مع الصفات التي يعرفونها عن المرشح للخلافة من الافساد وسفك الدماء
• واستطلاع إلى معرفة الحكمة التي يسلمون بوجودها وراء هذا الأمر ولكن لا يعرفونها على التفصيل
• ولا يجوز أن يكون هذا الاستفهام إنكاريا أومشوبا بالإنكار ولا مرادا به المعنى الحقيقي بل هومجازي

قال القشيري:
ولم يكن قوله الملائكة “أتجعل فيها من يفسد فيها “على وجه الاعتراض على التقدير ولكن على وجه الاستفهام.. فإن حمل الخطاب على ما يوجب تنزيه الملائكة أولى لأنهم معصومون قال تعالى “لا يعصون الله ما أمرهم”

قال القاسمي:
هذا تعجب من أن يستخلف لعمارة الأرض وإصلاحها من يفسد فيها، واستعلام عن الحكمة في ذلك. أي كيف تستخلف هؤلاء، مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء؟ فإن كان المراد عبادتك، فنحن نسبح بحمدك، ونقدس لك أي: ولا يصدر عنّا شيء من ذلك وهلاّ وقع الاقتصار علينا؟

قال أبوزهرة:
وقد كانوا مع اعتقادهم فى الإنسان ذلك الاعتقاد أشاروا إلى أنهم أولى منه بالخلافة فى الأرض من غير أن يعترضوا على الله تعالى فى حكمه، بل أبدوا استغرابهم من أن الله تعالى يتركهم إلى المفسد السافك للدماء، وهم المسبحون بحمد الله المقدسون له

قال الطوسي:
واقوى هذه الوجوه قول من قال: إن الملائكة إنما قالت: “اتجعل فيها من يفسد فيها “على وجه التعجب من هذا التدبير، لا إنكارا له ولكن على وجه التألم والتوجع والاغتمام والاستعلام لوجه التدبير فيه

قال الطبرسي:
وكذلك قوله « أ تجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك » في ضمنه اختصار شديد أي فنحن على ما نظنه ويظهر لنا من الأمر أولى بالخلافة في الأرض لأنا نطيع وغيرنا يعصي

قال عمدة القاري:
وقولهم أتجعل فيها من يفسد فيها (البقرة 30) ليس على وجه الاعتراض ولا على وجه الحسد وإنما هوسؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك مع أن فيهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء فإن كان المراد عبادتك فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك أي نصلي ولا يصدر منا شيء خلاف ذلك

قال الطبري في ترجيحه:
قال أبوجعفر: وأولى هذه التأويلات بقول الله جل ثناؤه، مخبرًا عن ملائكته قيلها له:”أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس
لك”، تأويل من قال: إن ذلك منها استخبار لربها، بمعنى: أعلمنا يا ربنا أجاعلٌ أنت في الأرض مَنْ هذه صفته، وتارك أن تجعل خلفاءَك منا، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك – لا إنكارٌ منها لما أعلمها ربها أنه فاعل. وإن كانت قد استعظمتْ لما أخبرت بذلك، أن يكون لله خلقٌ يعصيه.

قال ابن القيم في الفوائد:
قال تعالى {قالوا اتجعل فيها من يفسد فيها يفسك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون}
فهذه كالمناظرة من الملائكة والجواب عن سؤالهم:
• كأنهم قالوا إن استخلفت في الأرض خليفة كان منه الفساد وسفك الدماء وحكمتك تقتضي أن لا تفعل ذلك
• وإن جعلت فيها فتجعل فيها من يسبح بحمدك ويقدس لك ونحن نفعل ذلك
• فأجابهم تعالى عن هذا السؤال بأن له من الحكمة في جعل هذا الخليفة في الأرض ما لا تعلمه الملائكة وإن وراء ما زعمتم من الفساد مصالح وحكما لا تعلمونها أوصلها بعض العلماء إلى قريب من أربعين حكمة:

قال الأمثل:
وفي الحقيقة أن مرادهم هوالقول بأن الهدف اذا كان هوالطاعة والعبودية فنحن على أتمّ الاستعداد. ولوكان هوالعبادة فنحن في هذه الحالة دائماً، واذا كان المقصود هوتطهير النفس أوتطهير الارض فسوف ننفذ هذا الامر. في حين أن الانسان المادي مضافاً إلى فساده. فانه يفسد الارض.

قال الجلال:
وَالْجُمْلَة حَال أَيْ فَنَحْنُ أَحَقّ بِالِاسْتِخْلَافِ
قال المراغي:
(وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) أي أتستخلف من هذه صفته ونحن المعصومون؟

قال تبيين كلمات القرآن شيعي :
{ونحن} أي اجعل الخليفة منا، فإنا لا نفسد، بل {نسبح بحمدك} أي ننزهك تنزيهاً من سبح الحمد، فإن من حمد الله تعالى فقد نزهه، كقولك ننزهك بذكر فضائلك، أوننزهك متلبسين بحمدك فإن التنزيه هوالتبرئة عما لايليق به، والحمد هوالثناء على الجميل الاختياري

قال ابن عطية:
وقال آخرون: معناه التمدح ووصف حالهم، وذلك جائز لهم كما قال يوسف عليه السلام: {إني حفيظ عليم} [يوسف: 55].

قال القاضي أبومحمد: وهذا يحسن مع التعجب الاستعظام لأن يستخلف الله من يعصيه في قولهم {أتجعل} وعلى هذا أدبهم بقوله تعالى: {إني أعلم ما لا تعلمون}.

قال الميزان:
وهذا الكلام من الملائكة في مقام تعرف ما جهلوه واستيضاح ما أشكل عليهم من أمر هذا الخليفة، وليس من الاعتراض والخصومة في شيء، والدليل على ذلك قولهم فيما حكاه الله تعالى عنهم: إنك أنت العليم الحكيم حيث صدر الجملة بإن التعليلية المشعرة بتسلم مدخولها فافهم

قال أبوالسعود:
{وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ} جملة حاليةٌ مقررة للتعجب السابق ومؤكدةٌ له على طريقة قول من يجِدُّ في خدمة مولاه وهويأمرُ بها غيرَه أتستخدمُ العُصاةَ وأنا مجتهدٌ فيها كأنه قيل: أتستخلفُ من شأنُ ذريته الفسادُ مع وجود مَنْ ليس من شأنه ذلك أصلاً؟ والمقصودُ عرضُ أحقيتِهم منهم بالخلافة واستفسارٌ عما رجَّحهم عليهم مع ما هومتوقَّعٌ منهم من الموانع لا العُجبُ والتفاخرُ، فكأنهم شعَروا بما فيهم من القوة الشهوية التي رذيلتُها الإفراطيةُ الفسادُ في الأرض والقوةِ الغضبيةِ التي رذيلتُها الإفراطية سفكُ الدماء فقالوا ما قالوا وذَهِلوا عما إذا سخَّرَتْهما القوةُ العقلية ومرَّنتْهما على الخير (فإنه) يحصُل بذلك من علوالدرجةِ ما يقصُر عن بلوغ رُتبةِ القُوةِ العقلية عند انفرادِها في أفاعيلها، كالإحاطة بتفاصيل أحوالِ الجزئيات واستنباطِ الصناعات، واستخراج منافعِ الكائنات من القوة إلى الفعل وغير ذلك مما نيط به أمر الخلافة

قال النسفي: والواوفي {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ} للحال كما تقول: أتحسن إلى فلان وأنا أحق منه بالإحسان؟
قال التحرير: الاحتمال الثاني: أن يكون الغرض من قولهم {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} التعريض بأنهم أولى بالاستخلاف لأن الجملة الاسمية دلت على الدوام وجملة {مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} دلت على توقع الفساد والسفك فكان المراد أن استخلافه يقع منه صلاح وفساد والذين لا يصدر منهم عصيان مراد الله هم أولى بالاستخلاف ممن يتوقع منه الفساد فتكون حالا مقررة لمدلول جملة {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ} تكملة للاستغراب،

قال المطعنى: الملائكة أثبتوا للخليفة رذيلتين وهي الإفساد في الأرض وسفك الدماء وأثبتوا لأنفسهم فضيلتين: التسبيح بحمد الله والتقديس له فهم إذن أهل الطاعة وغيرهم أهل المعصية فالملائكة أحق في نظرهم بالخلافة بالخلافة [1]

قال النورسي: وإيراد {يفسد} بدل {يعصي} إشارة إلى أن العصيان يجر إلى فساد نظام العالم
والتعبير بالمضارع إشارة إلى أن المستنكر تجدد العصيان واستمراره

السر البلاغي في تكرير {فيها}:
القول الأول: قال الآلوسي: وتكرار الظرف للدلالة على الإفراط في الفساد ولم يكرره بعد للاكتفاء مع ما في التكرار مما لا يخفى. قال الطوسي: وقال قوم: المعنى فيه ان الله اعلم الملائكة انه جاعل في الارض خليفة وان الخليفة فرقة تسفك الدماء وهي فرقة من بني آدم فأذن الله للملائكة ان يسألوه عن ذلك وكان اعلامه أياهم هذا زيادة على التثبيت في نفوسهم انه يعلم الغيب فكأنهم قالوا: أتخلق فيها قوما يسفك الدماء، ويعصونك وانما ينبغي انهم اذا عرفوا انك خلقتهم ان يسبحوا بحمدك كما نسبح ويقدسوا كما نقدس؟ ولم يقولوا: هذا إلا وقد اذن لهم، لانهم لا يجوز ان يسألوا ما لايؤذن لهم ما فيه، ويؤمرون به، لقوله: (ويفعلون ما يؤمرون)(1) ان قيل من اين لكم أنهم كانوا علموا ذلك؟ قيل ذلك محذوف لدلالة الكلام عليه، لانا علمنا أنهم لا يعلمون الغيب وليس اذا فسد الجن في الارض، وجب أن يفسد الانس وقوة السؤال تدل على أنهم كانوا عالمين وجرى ذلك مجرى قول الشاعر:
فلا تدفنوني إن دفني محرم
عليكم ولكن خامري أم عامر(2)
فحذف قوله: دعوني للتي يقال لها إذا أريد صيدها خامري أم عامر فكأنه وقال: إني جاعل في الارض خليفة يكون من ولده افساد في الارض وسفك الدماء

قال المطعنى: تكرار الجار والمجرور في {أتجعل فيها} من يفسد فيها لأن سلامة المعنى بلاغيا لا تقتضي هذا التكرار لأنه لوحذف الأول لما تعين جعل الخليفة في الأرض ولفات توكيد هذا الجاروالمجرور لقوله جاعل في الأرض ولوحذف الثاني لما تعين أن يكون الأفساد وسفك الدماء في الأرض لذلك كان تكرار الجار في الموضعين واجبا بلاغيا

قال أبوالسعود: والظرفُ الأولُ متعلقٌ بتجعلُ وتقديمُه لما مر مراراً والثاني بيُفسِدُ، وفائدتُه تأكيدُ الاستبعادِ لما أن في استخلاف المفسِدِ في محل إفساده من البعد ما ليس في استخلافه في غيره،

قال الآلوسي: تكرار الظرف للدلالة على الإفراط في الفساد ولم يكرره بعد للاكتفاء مع ما في التكرار مما لا يخفى.
قال النورسي: وإن {فيها} مع {فيها} مع قصر المسافة فللتنصيص والإيماء إلى معنى ما حكمة جعل البشر روحا منفوخا في جسد الأرض لحياتها مع وجود الفساد والأماتة من حيث الأحياء

قال التحرير والتنوير:
وتكرير ضمير الأرض للاهتمام بها والتذكير بشأن عمرانها وحفظ نظامها ليكون ذلك أدخل في التعجب من استخلاف آدم وفي صرف إرادة الله تعالى عن ذلك إن كان في الاستشارة ائتمار.قال أبوحيان:
وكرر فيها لأن في ذلك تنبيها على أن ما كان محلا للعبادة وطاعة اللّه كيف يصير محلا للفساد؟ كما مر مثله في قوله: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ ولم يحتج إلى تكرير فيها بعد قوله: ويسفك، اكتفاء بما سبق وتنكبا أن يكررفيها ثلاث مرات. ألا ترى أنهم نقدوا على أبي الطيب قوله:
ونهب نفوس أهل النهب أولى بأهل النهب من نهب القماش

عطف {ويسفك الدماء} على {يفسد فيها} من عطف الخاص على العام والمغزى البلاغي من هذا العطف التنبه على فظاعة سفك الدماء وبيان شدة مفسدة القتل وعظم هذه المعصية لأنه بها تتلاشى الهياكل الجسمانية فيخيل أن الإفساد كله بجميع صوره قسم وسفك الدماء قسم آخر يماثله في القبح

قال الطبرسي:
قالوا – يعني الملائكة – لله تعالى أتجعل فيها أي في الأرض من يفسد فيها بالكفر والمعاصي ويسفك الدماء بغير حق.

قال أبوحيان:
ولما كانت الصلة يفسد، وهوفعل في سياق الإثبات، فلا يدل على التعميم في الفساد. نصوا على أعظم الفساد، وهوسفك الدماء، لأنه به تلاشي الهياكل الجسمانية التي خلقها اللّه، ولولم ينصوا عليه لجاز أن لا يراد من قولهم: يفسد، وقال سعيد عن قتادة : فقالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} وقد علمت الملائكة من علم الله أنه لا شيء أكره إلى الله من سفك الدماء والفساد في الأرض

قال الطوسي:
وقد علمت الملائكة من علم الله أنه لا شئ عند الله أكبر من سفك الدماء والافساد في الارض انتهى. قال بعضهم: هذه الآية تدل على كراهة الملائكة للإفساد في الأرض

عطف {ونقدس لك} على {نسبح لك} من عطف العام على الخاص عكس الأول لأن التقديس أعم من التسبيح بحمده والمغزى البلاغي هوالتدرج في الثناء [هذا يحتاج إلى تأكد]

إيثار من الموصولة في {من يفسد فيها} على الذي سمة من سمات البلاغة القرأنية الرغيقة لأن الذي يحسن فيما عرقت صلة الموصول فيه معرفة ظاهرة تقول حصر الذي استضافنا بالأمس إذا كان مخاطبك يعرف وقوع استضافته لكما وأنها وقعت فعلا منه بالأمس والإفساد في الأرض وسفك الدماء اللذان هما صلة الموصول لم يكونا قد وقعا بالفعل فحصولهما كان في الذهن فحسب لذلك أوثر اسم الموصول من هنا على الذي لعدم ظهور الصلة ظهورا بينا [قال معاني النحو]

قال التحرير والتنوير:
وعبر بالموصول وصلته للإيماء إلى وجه بناء الكلام وهوالاستفهام والتعجب لأن من كان من شأنه الفساد والسفك لا يصلح للتعمير لأنه إذا عمر نقض ما عمره.

قال التحرير والتنوير:
وفي المجيء بالصلة جملة فعلية دلالة على توقع أن يتكرر الإفساد والسفك من هذا المخلوق
قال النورسي: والتعبير بالمضارع إشارة إلى أن المستنكر تجدد العصيان واستمراره

سفك الدماء كناية عن قتل النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق وأوثرت الكناية عن التصريح وهوالقتل لما في سفك الدماء وهوإسالتها على الأرض من فظاعة وشناعة

قال النورسي: وإيثار {يسفك} على {يقتل} لأن السفك هوالقتل بظلم ومن القتل ما هوجهاد في سبيل الله وكذا قتل الفرد لسلامة الجماعة كقتل الذئب لسلامة الغنم

توكيد الخبر في {إني أعلم ما لا تعلمون} لإزالة ما في نفوس الملائكة من دهشة واستغراب من أمر الاستخلاف الذي غابت عنهم الحكمة

كيف علمت الملائكة أنهم سيفسدون في الأرض ويسفكون الدماء والملائكة لا يعلمون الغيب في هذه المسألة أقوال:

القول الأول: علموا ماذا سيكون من الفساد في الأرض وسفك الدماء بتوقيف من الله تعالى بإخبار اللّه إياهم، قاله ابن مسعود وابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة، وابن زيد وابن قتيبة. وروى السدي عن أشياخه: أنهم قالوا: ربنا وما يكون ذلك الخليفة؟ قال: يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون، ويقتل بعضهم بعضاً، فقالوا: أَتجعل فيها من يفسد فيها}.

قال ابن زيد وغيره: إن الله تعالى أعلمهم أن الخليفة سيكون من ذريته قوم يفسدون ويسفكون الدماء، فقالوا لذلك هذه المقالة.

قال السامرائي:
وأولها: وهوالذي يميل إليه عدد من العلماء وأكاد أجد اطمئناناً إليه ولا أنفي الباقي وهوأن الحوار في القرآن مختصر كأن الله عز وجل حين قال (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) كأن الملائكة سألت ما شأن هذا الخليفة؟ ما الخليفة هذا؟ لأن كيف يقولون (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ) وهم خالي الذهن؟ فكأنما سألوا ما هذا الخليفة؟ ما شأنه؟ فقال الله عز وجل أن هذا مخلوق له ذرية، من هذه الذرية من سيسبحني ويعبدني ويقدسني ومنهم من سوف يفسد، يسفك الدماء وقد مال إليه عدد من كبار علمائنا من المفسرين.
ومنهم من قال إنهم قالوا ذلك على اليقين وهومروي عن ابن مسعود وناس من الصحابة
أحدها: أنه تعالى لما قال للملائكة: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالوا ربنا وما يكون ذلك الخليفة؟
قال يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضاً، فعند ذلك قالوا: ربنا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء.

قال الآلوسي:
وحكم الملائكة بالإفساد والسفك على الإنسان بناء على بعض هاتيك الوجوه ليس من ادعاء علم الغيب أوالحكم بالظن والتخمين: ولكن بإخبار من الله تعالى ولم يقص علينا فيما حكى عنهم اكتفاء بدلالة الجواب على للإيجاز كما هوعادة القرآن ويؤيد ذلك ما روى في بعض الآثار أنه لما قال الله تعالى ذلك قالوا: وما يكون من ذلك الخليفة قال: تكون له ذرية يفسدون في الأرض ويقتل بعضهم بعضا فعند ذلك قالوا: ربنا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء.

وقدمه ابن كثير في الذكر: قال ابن كثير: وكأنهم علموا ذلك بعلم خاص، قال قتادة: وقد تقدم إليهم أنهم يفسدون فيها فقالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا}

قال ابن كثير:
وقد تقدم ما رواه السدي، عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من الصحابة: أن الله أعلم الملائكة بما يفعل ذرّية آدم، فقالت الملائكة ذلك.

قال الأمثل:
الملائكة كانوا عالمين ـ كما يبدومن تساؤلهم ـ أن هذا الإنسان موجود يفسد في الأرض ويسفك الدماء، فكيف عرفوا ذلك؟! قيل إن الله سبحانه أوضح للملائكة من قبل على وجه الإِجمال مستقبل الإِنسان

قال ابن كثير:
قال ابن جريج: إنما تكلموا بما أعلمهم الله أنه كائن من خلق آدم، فقالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ}. قال الطبري: وقال بعضهم: ذلك من الملائكة على وجه الاسترشاد عما لم يعلموا من ذلك، فكأنهم قالوا:”يا رب خبرنا”، مسألةَ استخبار منهم لله، لا على وجه مسألة التوبيخ. قال أبوجعفر: وأولى هذه التأويلات بقول الله جل ثناؤه، مخبرًا عن ملائكته قيلها له:”أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك”، تأويل من قال: إن ذلك منها استخبار لربها، بمعنى: أعلمنا يا ربنا أجاعلٌ أنت في الأرض مَنْ هذه صفته، وتارك أن تجعل خلفاءَك منا، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك – لا إنكارٌ منها لما أعلمها ربها أنه فاعل. وإن كانت قد استعظمتْ لما أخبرت بذلك، أن يكون لله خلقٌ يعصيه. لك”، تأويل من قال: إن ذلك منها استخبار لربها، بمعنى: أعلمنا يا ربنا أجاعلٌ أنت في الأرض مَنْ هذه صفته، وتارك أن تجعل خلفاءَك منا، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك – لا إنكارٌ منها لما أعلمها ربها أنه فاعل. وإن كانت قد استعظمتْ لما أخبرت بذلك، أن يكون لله خلقٌ يعصيه. وأما وصفُ الملائكة مَن وصفت -في استخبارها ربَّها عنه- بالفساد في الأرض وسفك الدماء، فغير مستحيلٍ فيه ما رُوي عن ابن عباس وابن مسعود من القول الذي رواه السُّدّيّ، ووافقهما عليه قتادة – من التأويل: وهوأن الله جل ثناؤه أخبرهم أنه جاعلٌ في الأرض خليفة تكون له ذرية يفعلون كذا وكذا، فقالوا: “أتجعل فيها من يفسد فيها”، على ما وصفت من الاستخبار. فإن قال قائل: فإن كان أولى التأويلات بالآية هوما ذكرتَ، من أن الله أخبر الملائكة بأن ذرّية خليفته في الأرض يفسدون فيها ويسفكون فيها الدماء، فمن أجل ذلك قالت الملائكة:”أتجعل فيها من يفسد فيها”، فأين ذكر إخبارِ الله إياهم في كتابه بذلك؟ قيل له: اكتفى بدلالة ما قد ظهرَ من الكلام عليه عنه، كما قال الشاعر: فَلا تَدْفِنُونِي إِنَّ دَفْنِي مُحَرَّمٌ… عَلَيْكُمْ، وَلَكِن خَامِرِي أُمَّ عَامِرِ
فحذف قوله”دعوني للتي يقال لها عند صَيدها”: خامري أمّ عامر. إذ كان فيما أظهر من كلامه، دلالة على معنى مراده. فكذلك ذلك في قوله:”قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها”، لما كان فيه دلالة على ما ترك ذكره بعد قوله:”إنّي جاعل في الأرض خليفة”، من الخبر عما يكون من إفساد ذريته في الأرض، اكتفى بدلالته وحَذف، فترك ذكره كما ذكرنا من قول الشاعر. ونظائر ذلك في القرآن وأشعار العرب وكلامها أكثر من أن يحصى. فلما ذكرنا من ذلك، اخترنا ما اخترنا من القول في تأويل قوله:”قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء”.
قال أبوزهرة:
ذكر الله تعالى لملائكته أنه جعل له تعالى خليفة فى هذه الأرض، ويظهر أن
الله تعالى أعلمهم بطبيعة هذا العالم الثالث فى هذا الوجود من أنه أوتى عقلا مدركا، وشهوة قد تكون طاغية، وأنها إن طغت أفسدت، وأهلكت. ولذلك قالوا لربهم مستغربين: أتجعل فيها من يفسد فيها، لأنه ركبت فيه الشهوة وإذا غلبت أفسدت، وإن الشهوات إذا تحكمت كانت الاثرة، وكان التنازع، ومع التنازع سفك الدماء، ولذا قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء”؟

قال أبوزهرة:
ويظهر أن الله تعالى أعلمهم بطبيعة هذا العالم الثالث فى هذا الوجود من أنه أوتى عقلا مدركا، وشهوة قد تكون طاغية، وأنها إن طغت أفسدت، وأهلكت.
ولذلك قالوا لربهم مستغربين: أتجعل فيها من يفسد فيها، لأنه ركبت فيه الشهوة وإذا غلبت أفسدت، وإن الشهوات إذا تحكمت كانت الاثرة، وكان التنازع، ومع التنازع سفك الدماء، ولذا قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء”؟ وقد كانوا مع اعتقادهم فى الإنسان ذلك الاعتقاد أشاروا إلى أنهم أولى منه بالخلافة فى الأرض من غير أن يعترضوا على الله تعالى فى حكمه، بل أبدوا استغرابهم من أن الله تعالى يتركهم إلى المفسد السافك للدماء، وهم المسبحون بحمد الله المقدسون له،. فقالوا مقابلين بين حالهم وحال الإنسان، {ونحن نسبح بحمدك} وأى نحن نذكرك مديمين بحمدك على ما أنعمت.
قال الطبرسي: (وثالثها) أن الله تعالى أخبر الملائكة بأنه سيكون من ذرية هذا الخليفة من يعصي ويسفك الدماء على ما روي عن ابن عباس وابن مسعود

قال البرهان في علوم القرآن:
ومن حذف الجملة قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} قيل: المعنى جاعل في الأرض خليفة يفعل كذا وكذا وإلا فمن أين علم الملائكة أنهم يفسدون وباقي الكلام يدل على المحذوف.

قال الطبري في ترجيحه: قال أبوجعفر: وأولى هذه التأويلات بقول الله جل ثناؤه، مخبرًا عن ملائكته قيلها له:”أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك”، تأويل من قال: إن ذلك منها استخبار لربها، بمعنى: أعلمنا يا ربنا أجاعلٌ أنت في الأرض مَنْ هذه صفته، وتارك أن تجعل خلفاءَك منا، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك – لا إنكارٌ منها لما أعلمها ربها أنه فاعل. وإن كانت قد استعظمتْ لما أخبرت بذلك، أن يكون لله خلقٌ يعصيه.

وأما وصفُ الملائكة مَن وصفت – في استخبارها ربَّها عنه – بالفساد في الأرض وسفك الدماء، فغير مستحيلٍ فيه ما رُوي عن ابن عباس وابن مسعود من القول الذي رواه السُّدّيّ، ووافقهما عليه قتادة – من التأويل: وهوأن الله جل ثناؤه أخبرهم أنه جاعلٌ في الأرض خليفة تكون له ذرية يفعلون كذا وكذا، فقالوا: “أتجعل فيها من يفسد فيها”، على ما وصفت من الاستخبار.

فإن قال لنا قائل: وما وجه استخبارها، والأمر على ما وصفتَ، من أنها قد أخبرت أنّ ذلك كائن؟
قيل: وجه استخبارها حينئذ يكون عن حالهم عن وقوع ذلك. وهل ذلك منهم؟ ومسألتهم ربَّهم أن يجعلهم الخلفاءَ في الأرض حتى لا يعصوه. وغيرُ فاسد أيضًا ما رواه الضحاك عن ابن عباس، وتابعه عليه الربيع بن أنس، من أن الملائكة قالت ذلك لما كان عندها من علم سكان الأرض -قبل آدم- من الجنّ، فقالت لربها:”أجاعل فيها أنت مثلهم من الخلق يفعلون مثل الذي كانوا يفعلون”؟ على وجه الاستعلام منهم لربهم، لا على وجه الإيجاب أنّ ذلك كائن كذلك، فيكون ذلك منها إخبارًا عما لم تطلع عليه من علم الغيب. وغيرُ خطأ أيضًا ما قاله ابن زيد من أن يكون قيلُ الملائكة ما قالت من ذلك، على وجه التعجب منها من أن يكون لله خلقٌ يعصي خالقه.

فإن قال قائل: فإن كان أولى التأويلات بالآية هوما ذكرتَ، من أن الله أخبر الملائكة بأن ذرّية خليفته في الأرض يفسدون فيها ويسفكون فيها الدماء، فمن أجل ذلك قالت الملائكة:”أتجعل فيها من يفسد فيها”، فأين ذكر إخبارِ الله
إياهم في كتابه بذلك؟

قيل له: اكتفى بدلالة ما قد ظهرَ من الكلام عليه عنه، كما قال الشاعر:
فَلا تَدْفِنُونِي إِنَّ دَفْنِي مُحَرَّمٌ … عَلَيْكُمْ، وَلَكِن خَامِرِي أُمَّ عَامِرِ (2)
فحذف قوله”دعوني للتي يقال لها عند صَيدها”: خامري أمّ عامر. إذ كان فيما أظهر من كلامه، دلالة على معنى مراده. فكذلك ذلك في قوله:”قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها”، لما كان فيه دلالة على ما ترك ذكره بعد قوله:”إنّي جاعل في الأرض خليفة”، من الخبر عما يكون من إفساد ذريته في الأرض، اكتفى بدلالته وحَذف، فترك ذكره كما ذكرنا من قول الشاعر. ونظائر ذلك في القرآن وأشعار العرب وكلامها أكثر من أن يحصى. فلما ذكرنا من ذلك، اخترنا ما اخترنا من القول في تأويل قوله:”قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء”.

القول الثاني:كالأول: لكن قالوا بتلقٍ من اللوح مما ذكر أنهم احتمال أنهم اطلعوا على اللوح المحفوط واللوح المحفوظ كتب فيه كل شيء وما يفعله البشر فرأوا ما يفعله هؤلاء فقالوا (قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء) بما اطلعوا عليه في اللوح المحفوظ.
لما كتب القلم في اللوح ما هوكائن إلى يوم القيامة فلعلهم طالعوا اللوح فعرفوا ذلك.
قال الآلوسي:
وقيل: عرفوا ذلك من اللوح ويبعده عدم علم الجواب ويحتاج الجواب إلى تكلف

القول الثالث: علموا بما فهموه من الطبيعة البشرية، فإنه أخبرهم أنه يخلق هذا الصنف من صلصال من حمأ مسنون
القول الرابع : أنهم قاسوه على أحوال من سلف قبل آدم، روي نحوهذا عن ابن عباس وأبي العالية ومقاتل.فهم قاسوا الشاهد على الغائب بقياسٍ لأحد الثقلين على الآخر
يقول لعله لديهم تجربة سابقة مخلوق سابق أفسد وسفك دماءً فقالوا هذا سيفعل كما فعل الذي قبله،
وهومروي عن ابن عباس والكلبي أنهم قاسوه / على حال الجن الذين كانوا قبل آدم عليه السلام في الأرض.
قال الآلوسي:
وقيل: قياسا لأحد الثقلين على الآخر بجامع إشتراكهما في عدم العصمة ولا يخفى ما في القولين
قال الآلوسي:
ولا يخفى ما في القولين
قال الطبري: وغيرُ فاسد أيضًا ما رواه الضحاك عن ابن عباس، وتابعه عليه الربيع بن أنس، من أن الملائكة قالت ذلك لما كان عندها من علم سكان الأرض – قبل آدم – من الجنّ، فقالت لربها: “أجاعل فيها أنت مثلهم من الخلق يفعلون مثل الذي كانوا يفعلون؟” على وجه الاستعلام منهم لربهم، لا على وجه الإيجاب أنّ ذلك كائن كذلك، فيكون ذلك منها إخبارًا عما لم تطلع عليه من علم الغيب. وإنما تركنا القول بالذي رواه الضحاك عن ابن عباس، ووافقه عليه الربيع بن أنس، وبالذي قاله ابن زيد في تأويل ذلك، لأنه لا خبر عندنا بالذي قالوه من وجه يقطعُ مجيئُه العذرَ، ويُلزمُ سامِعَه به الحجة. والخبر عما مضى وما قد سلف، لا يُدرك علمُ صحته إلا بمجيئه مجيئًا يمتنع مَعه التشاغب والتواطؤ، ويستحيل مَعه الكذب والخطأ والسهو(1). وليس ذلك بموجود كذلك فيما حكاه الضحاك عن ابن عباس ووافقه عليه الربيع،
قال المراغي:
أي واذكر لقومك مقال ربك للملائكة: إنى جاعل آدم خليفة عن نوع آخر كان في الأرض، وانقرض بعد أن أفسد في الأرض وسفك الدماء وسيحل هومحله، يرشد إلى ذلك قوله تعالى بعد ذكر إهلاك القرون {ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ} ومن ثمّ استنبط الملائكة سؤالهم بالقياس عليه، وعلى هذا فليس آدم أوّل أصناف العقلاء من الحيوان في الأرض.
قال الجلال:
“قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِد فِيهَا”بِالْمَعَاصِي “وَيَسْفِك الدِّمَاء”يُرِيقهَا بِالْقَتْلِ كَمَا فَعَلَ بَنُوالْجَانّ وَكَانُوا فِيهَا فَلَمَّا أَفْسَدُوا أَرْسَلَ اللَّه عَلَيْهِمْ الْمَلَائِكَة فَطَرَدُوهُمْ إلَى الْجَزَائِر وَالْجِبَال
وقال القرطبي:
وقيل: إن الملائكة قد رأت وعلمت ما كان من إفساد الجن وسفكهم الدماء. وذلك لأن الأرض كان فيها الجن قبل خلق آدم فأفسدوا وسفكوا الدماء، فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة فقتلهم وألحقهم بالبحار ورؤوس الجبال
قال القاسمي:
قال العلامة برهان الدين البقاعي في تفسيره: وما يقال من أنه كان قبل آدم، عليه السلام، في الأرض خلق يعصون، قاس عليهم الملائكة حال آدم عليه السلام كلامٌ لا أصل له. بل آدم أول ساكنيها بنفسه. انتهى.
قال الشعراوي كيف عرف الملائكة ذلك؟ لابد أن هناك حالة قبلها قاسوا عليها. أوأنهم ظنوا أن آدم سيطغى في الأرض. ولكن كلمة سفك وكلمة دم. كيف عرفتهما الملائكة وهي لم تحدث بعد؟ لابد أنهم عرفوها من حياة سابقة. والله سبحانه وتعالى يقول: {والجآن خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السموم} [الحجر: 27]
فكأن الجن قد خلق قبل الإنسان
القول الخامس: علموا فهموا من الخليفة أنه الذي يفصل بين الناس ما يقع بينهم من المظالم. ويردعهم عن المحارم والمآثم.
إذا كان معنى الخليفة من يكون نائباً للّه تعالى في الحكم والقضاء، والاحتجاج إلى الحاكم والقاضي إنما يكون عند التنازع والتظالم كان الإخبار عن وجود الخليفة إخباراً عن وقوع الفساد والشر بطريق الالتزام
قال الآلوسي:
ويحتمل أنهم علموا ذلك من تسميته خليفة لأن الخلافة تقتضي الإصلاح وقهر المستخلف عليه وهويستلزم أن يصدر منه فساد إما في ذاته بمقتضى الشهوة أوفي غيره من السفك أولأنها مجلى الجلال كما أنها مجلى الجمال ولكل آثار والإفساد والسفك من آثار الجلال وسكتوا عن آثار الجمال إذ لا غرابة فيها
قال الآلوسي:
ولا يخفى ما في القولين
وقال القرطبي:
فقيل: المعنى أنهم لما سمعوا لفظ خليفة فهموا أن في بني آدم من يفسد، إذ الخليفة المقصود منه الإصلاح وترك الفساد، لكن عمموا الحكم على الجميع بالمعصية، فبين الرب تعالى أن فيهم من يفسد ومن لا يفسد فقال تطييبا لقلوبهم: {إِنِّي أَعْلَمُ} وحقق ذلك بأن علم آدم الأسماء، وكشف لهم عن مكنون علمه. والقول الأول [يعني هذا القول] أيضا حسن جدا، لأن فيه استخراج العلم واستنباطه من مقتضى الألفاظ وذلك لا يكون إلا من العلماء
القول السادس :
قال نظم الدرر:
والأظهر ما ذكرته أنهم إنما قالوا ذلك تفرساً بحكم ما ظهر لهم من صورته ونحوذلك من إعلامهم بأنه يجمع فيه بين الشهوة والعقل، ومن المعلوم أن الشهوة حاملة على الفساد
وقال البقاعي: وكأنهم لما رأوا صورة آدم تفرسوا فيها ذلك
قال بعضهم: أنهم عرفوا خلقته وعرفوا أنه مركب من هذه الأخلاط الأربعة فلا بد وأن تتركب فيه الشهوة والغضب فيتولد الفساد عن الشهوة وسفك الدماء عن الغضب.
قال التحرير: ومجرد مشاهدة الملائكة لهذا المخلوق العجيب المراد جعله خليفة في الأرض كاف في إحاطتهم بما يشتمل عليه من عجائب الصفات على نحوما سيظهر منها في الخارج لأن مداركهم غاية في السمولسلامتها من كدرات المادة، وإذا كان أفراد البشر يتفاوتون في الشعور بالخفيات، وفي توجه نورانية النفوس إلى المعلومات، وفي التوسم والتفرس في الذوات بمقدار تفاوتهم في صفات النفس جبلية واكتسابية ولدنية التي أعلاها النبوة، فما ظنك بالنفوس الملكية البحتة.
وفي هذا ما يغنيك عما تكلف له بعض المفسرين من وجه اطلاع الملائكة على صفات الإنسان قبل بدوها منه من توقيف واطلاع على ما في اللوح أي علم الله، أوقياس على أمة تقدمت وانقرضت، أوقياس على الوحوش المفترسة إذ كانت قد وجدت على الأرض قبل خلق آدم كما في سفر التكوين من التوراة.
قال الآلوسي:
وقيل: عرفوه استنباطا عما ركز في عقولهم من عدم عصمة غيرهم المفضي إلى العلم بصدور المعصية عمن عداهم المفضي إلى التنازع والتشاجر إذ من لا يرحم نفسه لا يرحم غيره وذلك بفضي إلى الفساد وسفك الدماء
قال الميزان:
قوله تعالى: “قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، إلى قوله. ونقدس لك.
مشعر بأنهم إنما فهموا وقوع الإفساد وسفك الدماء من قوله سبحانه. إني جاعل في الأرض خليفة، حيث إن الموجود الأرضي بما أنه مادي مركب من القوى الغضبية والشهوية، والدار دار التزاحم، محدودة الجهات، وافرة المزاحمات، مركباتها في معرض الانحلال، وانتظاماتها وإصلاحاتها في مظنة الفساد ومصب البطلان، لا تتم الحياة فيها إلا بالحياة النوعية، ولا يكمل البقاء فيها إلا بالاجتماع والتعاون، فلا تخلومن الفساد وسفك الدماء، ففهموا من هناك أن الخلافة المرادة لا تقع في الأرض إلا بكثرة من الأفراد ونظام اجتماعي بينهم يفضي بالآخرة إلى الفساد والسفك.
قال المنار:
خْبَرَ اللهُ الْمَلَائِكَةَ بِأَنَّهُ جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، فَفَهِمُوا مِنْ ذَلِكَ أَنَّ اللهَ يُودِعُ فِي فِطْرَةِ هَذَا النَّوْعِ الَّذِي يَجْعَلُهُ خَلِيفَةً أَنْ يَكُونَ ذَا إِرَادَةٍ مُطْلَقَةٍ وَاخْتِيَارٍ فِي عَمَلِهِ غَيْرَ مَحْدُودٍ، وَأَنَّ التَّرْجِيحَ بَيْنَ مَا يَتَعَارَضُ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي تَعِنُّ لَهُ تَكُونُ بِحَسْبِ عِلْمِهِ، وَأَنَّ الْعِلْمَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُحِيطًا بِوُجُوهِ الْمَصَالِحِ وَالْمَنَافِعِ فَقَدْ يُوَجِّهُ الْإِرَادَةَ إِلَى خِلَافِ الْمَصْلَحَةِ وَالْحِكْمَةِ وَذَلِكَ هُوالْفَسَادُ، وَهُومُتَعَيِّنٌ لَازِمُ الْوُقُوعِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ الْمُحِيطَ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلَّهِ – تَعَالَى.

الترجيح:
قال الرازي: إذا كان معنى الخليفة من يكون نائباً للّه تعالى في الحكم والقضاء، والاحتجاج إلى الحاكم والقاضي إنما يكون عند التنازع والتظالم كان الإخبار عن وجود الخليفة إخباراً عن وقوع الفساد والشر بطريق الالتزام قال أهل التحقيق والقول بأنه كان هذا الإخبار عن مجرد الظن باطل لأنه قدح في الغير بما لا يأمن أن يكون كاذباً فيه، وذلك ينافي العصمة والطهارة.

الفساد: الخروج عن الاعتدال والاستقامة ويضاده الصلاح يقال فسد الشيء فسادا وأفسده غيره والمراد يفسد بالمعاصي وَيَسْفِكُ الدِّماءَ أي بغير حق
والسفك: سفكُ الدم: صبُّه وإراقته وسفحه، يقال: سفكت الدم سفكا صببته وذلك مستعمل في كل مضيّع إلا أن السفك يختص بالدم وقال البقاعي: يختص بالدم المحرم، والصب والسفح والإِراقة يقال في الدم وفي غيره
قال الحرالي: وهوسكب بسطوة
• والمراد يقتل النفوسَ المحرمة بغير حق بالبغي والاعتداء بالقوة الغضبية أي، لعدم عصمتهم
• والتعبيرُ عنه بسفك الدماء لما أنه أقبحُ أنواعِ القتل وأفظعُه
• قال الآلوسي: والدماء جمع دم لامه ياء أوواووالمراد بها المحرمة بقرينة المقام وقيل: الإستغراق فيتضمن جميع أنواعها من المحظور وغيره والمقصود عدم تمييزه بينها

قال النورسي:
وأما {الدماء} فتأكيد لما في السفك من الدم لتشديد شناعة القتل
أقول ولم يقولوا {الدم} بل عبر بالدماء لما في الجمع ومد الألف من المبالغة في التعجب

هل كان كلام الملائكة على ما ينبغي:
قال الآلوسي:
وهم على كل تقدير ما قدروا الله تعالى حق قدره ولا يخل ذلك بهم ففوق كل ذي علم عليم
.قال الرازي: نحن نسلم أن الأولى للملائكة أن لا يوردوا ذلك السؤال

حاصل المعنى:
والمعنى: أتجعل في الأرض يا إلهنا من يفسد فيها ويريق الدماء والحال أننا نحن ننزهك عما لا يليق بعظمتك، تنزيها متلبسا بحمدك والثناء عليك، ونطهر ذكرك عما لا يليق بك تعظيما لك وتمجيدا.
يقولون يا ربنا ما الحكمة في خلق هؤلاء مع أن منهم من يفسد في الأرض، ويسفك الدماء فإن كان المراد عبادتك فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك، ولا يصدر منا شيء من ذلك فهلا وقع الاقتصار علينا؟

فوائد:
الفائدة الأولى:
قال الرازي: المسألة الأولى: الجمهور الأعظم من علماء الدين اتفقوا على عصمة كل الملائكة عن جميع الذنوب ومن الحشوية من خالف في ذلك ولنا وجوه:
الأول: قوله تعالى: لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6] إلا أن هذه الآية مختصة بملائكة النار فإذا أردنا الدلالة العامة تمسكنا بقوله تعالى: يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [النحل: 50] فقوله ويفعلون ما يؤمرون يتناول جميع فعل المأمورات وترك المنهيات لأن المنهي عن الشيء مأمور بتركه. فإن قيل ما الدليل على أن قوله ويفعلون ما يؤمرون يفيد العموم قلنا لأنه لا شيء من المأمورات إلا ويصح الاستثناء منه والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل على ما بيناه في أصول الفقه.

والثاني: قوله تعالى: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء: 26- 27] فهذا صريح في براءتهم عن المعاصي وكونهم متوقفين في كل الأمور إلا بمقتضى الأمر والوحي.

والثالث: أنه تعالى حكى عنهم أنهم طعنوا في البشر بالمعصية ولوكانوا من العصاة لما حسن منهم ذلك الطعن

الرابع: أنه تعالى حكى عنهم أنهم يسبحون الليل والنهار لا يفترون ومن كان كذلك امتنع صدور المعصية منه

الفائدة الثانية: قال المراغي أخذا من كلام محمد عبده وفائدة ذكر ذلك لنا من نواح عدة:

(1) بيان أن لا مطمع للإنسان في معرفة جميع أسرار الخليقة وحكمها، فالملائكة وهم أولى منا بعلمها عجزوا عن معرفتها.
(2) أن اللّه قد هدى الملائكة بعد حيرتهم، وأجابهم عن سؤالهم، بأن أرشدهم
إلى الخضوع والتسليم أوّلا بقوله: (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) ثم بالدليل ثانيا بأن علم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة.
ومن ثمّ تفضل على الملائكة وأبان لهم الحكمة في خلق هذا النوع، فعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة، فعلموا أن في فطرة هذا النوع استعدادا لعلم ما لم يعلموا، وأنه أهل للخلافة في الأرض، وأن سفك الدماء لا يذهب بحكمة الاستخلاف
وخلاصة هذا – إن الملائكة تشوّفوا لمعرفة الحكمة في استخلاف ذلك المخلوق الذي من شأنه ما قالوا، ومعرفة السر في تركهم وهم المجبولون على تسبيحه وتقديسه – فأعلمهم أنه أودع فيه من السر ما لم يودعه فيهم

الفائدة الثالثة: قال المراغي:
وبهذا القصص نعرف ما امتاز به النوع الإنسانى عن غيره من المخلوقات، وأنه مستعدّ لبلوغ الكمال العلمي إلى أقصى الغايات، دون الملائكة، ومن ثمّ كان أجدر بالخلافة منهم.
الإيضاح

الفائدة الرابعة: قال المنار:
فَعَلِمْنَا أَنَّ السَّلَفَ وَالْخَلَفَ مُتَّفِقُونَ عَلَى تَنْزِيهِ اللهِ – تَعَالَى – عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ شُئُونِ الْمَخْلُوقِينَ، وَعِصْمَةِ مَلَائِكَتِهِ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِمْ مِنَ الِاعْتِرَاضِ أَوالْإِنْكَارِ.

الفائدة الخامسة: قال محمد دروزة في كتاب التفسير الحديث:
في تعليقه على الآية {وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} والآيات التسع التالية لها
ننبه على أن ما جاء في هذه المجموعة لم يرد شيء منه في سفر التكوين المتداول اليوم الذي ذكر قصة خلق السموات والأرض وخلق آدم وخروجه من الجنة مع زوجته بسبب أكلهما من الشجرة.

الفائدة السادسة:
قال الشعراوي: تعطينا هنا وقفة. هل الملائكة قالوا لله سبحانه وتعالى: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} هل قالها الملائكة فعلا وجهرا، أم أنهم قالوها في أنفسهم ولم ينطقوا بها … قوله تعالى {وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} تعطينا إشارة إلى أن الملائكة ربما قالوا هذا سرا. ولم يبدوه، وعلى أية حال. سواء قالوه جهرا. أوقالوه سرا. فقد علمه الله. لأن الله جل جلاله … بكل شيء محيط. ولا نريد لهذه النقطة أن تثير جدلا … لماذا؟ لأنه في الحالتين … سواء في الجهر أوفي الكتمان.. فإن الموقف يتساوى عند علم الله سبحانه وتعالى … فلا داعي للجدل لأنه لا خلاف.انتهى
قال المنار:
فَعَجِبُوا كَيْفَ يَخْلُقُ اللهُ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْخَلْقِ وَسَأَلُوا اللهَ – تَعَالَى – بِلِسَانِ الْمَقَالِ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ، أَوبِلِسَانِ الْحَالِ وَالتَّوْجِيهِ إِلَيْهِ لِاسْتِفَاضَةِ الْمَعْرِفَةِ بِذَلِكَ وَطَلَبِ الْبَيَانِ وَالْحِكْمَةِ، وَعَبَّرَ اللهُ عَنْ ذَلِكَ بِالْقَوْلِ؛ لِأَنَّهُ هُوالْمَعْهُودُ بِالِاسْتِعْلَامِ وَالِاسْتِفْهَامِ عِنْدَ الْبَشَرِ الَّذِينَ أَنْزَلَ انتهى
قال الفقير علي: لكن الصواب الظاهر أن الملائكة قالوا ذلك لفظا ولم أر فيها خلافا بين العلماء إلا للمتأخرين

الفائدة السابعة:
قال الأمثل:
الملائكة بيّنوا حقيقة من الحقائق. ولذلك لم ينكر الله عليهم قولهم، بل أشار إلى أن ثمة حقائق اُخرى إلى جانب هذه الحقيقة، حقائق ترتبط بمكانة الإنسان في الوجود; وهذا ما لم تعرفه الملائكة.

الفائدة الثامنة: قال الأمثل:
الملائكة يعلمون أن الهدف من الخلقة هوالعبودية والطاعة، وكانوا يرون في أنفسهم مصداقاً كاملا لذلك، فهم في العبادة غارقون. ولذلك فهم ـ أكثر من غيرهم ـ للخلافة لائقون، غير عالمين أن بين عبادة الإنسان المليء بألوان الشهوات، والمحاط بأشكال الوساوس الشيطانية والمغريات الدنيوية وبين عبادتهم، ـ وهم خالون من كل هذه المؤثرات ـ بون شاسع. فأين عبادة هذا الموجود الغارق وسط الأمواج العاتية، من عبادة تلك الموجودات التي تعيش على ساحل آمن؟!
ماذا تعرف الملائكة من أبناء آدم أمثال سيدنا محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) وابراهيم ونوح وموسى وعيسى وعباد الله الصالحين والشهداء والمضحّون من الرجال والنساء الذين قدّموا وجودهم على مذبح العشق الإلهي، والذين تساوي ساعة من تفكّرهم سنوات متمادية من عبادة الملائكة

الفائدة التاسعة: قال د إبراهيم الصعبي:
ولعل في ذكرهم لسفك الدماء ما يتصل بصلة وشيجة بالدم المسفوك في قصة البقرة،

الفائدة العاشرة:
قال أبوالسعود:، فكأنهم شعَروا بما فيهم من القوة الشهوية التي رذيلتُها الإفراطيةُ الفسادُ في الأرض والقوةِ الغضبيةِ التي رذيلتُها الإفراطية سفكُ الدماء فقالوا ما قالوا وذَهِلوا عما إذا سخَّرَتْهما القوةُ العقلية ومرَّنتْهما على الخير (فإنه) يحصُل بذلك من علوالدرجةِ ما يقصُر عن بلوغ رُتبةِ القُوةِ العقلية عند انفرادِها في أفاعيلها، كالإحاطة بتفاصيل أحوالِ الجزئيات واستنباطِ الصناعات، واستخراج منافعِ الكائنات من القوة إلى الفعل وغير ذلك مما نيط به أمر الخلافة
قال النورسي: فبتجاوز القوة الشهوية يحصل الفساد وبتعدي القوة الغضبية ينشأ السفك والظلم

الفائدة الحادية العاشرة:
قال الإمام الرازي في سورة القدر:
اعلم أن نظر الملائكة على الأرواح، ونظر البشر على الأشباح، ثم إن الملائكة لما رأوا روحك محلاً للصفات الذميمة من الشهوة والغضب ما قبلوك. فقالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويفسك الدماء، وأبواك لما رأوا قبح صورتك في أول الأمر حين كنت منياً وعلقة ما قبلوك أيضاً، بل أظهروا النفرة، واستقذروا ذلك المني والعلقة، وغسلوا ثيابهم عنه، ثم كم احتالوا للإسقاط والإبطال، ثم إنه تعالى لما أعطاك الصورة الحسنة فالأبوان لما رأوا تلك الصورة الحسنة قبلوك ومالوا إليك، فكذا الملائكة لما رأوا في روحك الصورة الحسنة وهي معرفة الله وطاعته أحبوك فنزلوا إليك معتذرين عما قالوه أولاً، فهذا هوالمراد من قوله: {تَنَزَّلُ الملائكة} فإذا نزلوا إليك رأوا روحك في ظلمة ليل البدن، وظلمة القوى الجسمانية فحينئذ يعتذرون عما تقدم: ويستغفرون للذين آمنوا}.

قال المطعنى الزمخشري: {أَتَجْعَلُ فِيهَا} تعجب من أن يستخلف مكان أهل الطاعة أهل المعصية وهوالحكيم الذي لا يفعل إلا الخير ولا يريد إلا الخير.
قال قوله لا يفعل الخير من الاعتزاليات ولوقال كل أفعاله حكمة لكان صوابا
قال المطعنى ما قاله أبوالسعود في الاستفهام أحسن وهوكلام كاف شاف
قال الرازي الاستفهام للتعجب من كمال علم الله تعالى وإحاطة حكمته بما خفي على كل العقلاء
رد المطعنى القول الذي نقله الآلوسي القائل إن الاستفهام محض أي حقيقي طلب فيه الملائكة فهم شيء لم يكونوا عالمين به ولهذا حمل الكلام على حذف المعادل قال المطعني وهذا قول لا وزن له لأن ما لا يحتاج إلى تقدير محذوف أولى مما يحتاج إلى ذلك التقدير
ورد المطعني على التحرير والقرطبي والمنار
قال أبوحيان:
ولما كان ظاهر قول الملائكة: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ، مما لا يناسب أن يجاوبوا به اللّه، إذ قال لهم: {إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} وكان من القواعد الشرعية والعقائد الإسلامية عصمة الملائكة من المعاصي والاعتراض، لم يخالف في ذلك إلا طائفة من الحشوية احتاج أهل العلم إلى إخراج الآية السابقة عن ظاهرها وحملها كل قائل ممن تقدّم قوله على ما سبح له، وقوي عنده من التأويل الذي هوسائغ في علم اللسان. وقال بعض أهل الإشارات: الملائكة لما توهموا أن اللّه تعالى أقامهم في مقام المشورة بأن لهم وجه المصلحة في بقاء الخلافة فيمن يسبح ويقدس، وأن لا ينقلها إلى من يفسد فيها ويسفك، فعرضوا ذلك على اللّه، وكان ذلك من جملة النصح في الاستشارة، والنصح في ذلك واجب على المستشار، واللّه تعالى الحكم فيما يمضي من ذلك ويختار.
ومن أندر ما وقع في تأويل الآية ما ذهب إليه صاحب (كتاب فك الأزرار)، وهوالشيخ صفي الدين أبوعبد اللّه الحسين ابن الوزير أبي الحسن علي بن أبي المنصور الخزرجي، قال: في ذلك الكتاب ظاهر كلام الملائكة يشعر بنوع من الاعتراض، وهم منزهون عن ذلك، والبيان أن الملائكة كانوا حين ورود الخطاب عليهم مجملين، وكان إبليس مندرجا في جملتهم، فورد منهم الجواب مجملا. فلما انفصل إبليس عن جملتهم بإبائه وظهور إبليسيته واستكباره، انفصل الجواب إلى نوعين: فنوع الاعتراض منه كان عن إبليس، وأنواع الطاعة والتسبيح والتقديس كان عن الملائكة. فانقسم الجواب إلى قسمين، كانقسام الجنس إلى جنسين، وناسب كل جواب من ظهر عنه واللّه أعلم. انتهى كلامه. وهوتأويل حسن، وصار شبيها بقوله تعالى: وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَونَصارى تَهْتَدُوا «1»، لأن الجملة كلها مقولة، والقائل نوعان، فرد كل قول لمن ناسبه. وقيل في قوله: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ، إشارة إلى جواز التمدح إلى من له الحكم في التولية ممن يقصد الولاية، إذا أمن على نفسه الجور والحيف، ورأى في ذلك مصلحة.
قال الطوسي:
والسفك: صب الدماء خاصة دون غيره من جميع المائعات والسفح مثله إلا لأنه مستعمل في جميع المائعات على وجه التضييع، ولذلك قالوا في الزنا انه سفاح لتضييع مائه فيه
[تحقق من العبارة هل هي لأنه مستعمل]

[1] قال الآلوسي:
• وقيل: إستفهام محض حذف فيه المعاد لأي أتجعل فيها من يفسد أم تجعل من لا يفسد وجعله بعضهم من الجملة الحالية أي أتجعل فيها كذا ونحن نسبح بحمدك أم نتغير وأختار ذلك شيخنا علاء الدين الموصلي روح الله تعالى روحه والأدب يسكتنى عنه
• وعلى كل تقدير ليست الهمزة للإنكار كما زعمته الحشوية مستدلين بالآية على عدم عصمة الملائكة لإعتراضهم على الله تعالى وطعنهم في بني آدم
• ومن العجيب أن مولانا الشعراني وهومن أكابر أهل السنة بل من مشايخ أهل الله تعالى نقل عن شيخه الخواص أنه خص العصمة بملائكة السماء معللا له بأنهم عقول مجردة بلا منازع ولا شهوة وقال: إن الملائكة الأرضية غير معصومين ولذلك وقع إبليس فيما وقع إذ كان من ملائكة الأرض الساكنين بجبل الياقوت بالمشرق عند خط الاستواء فعليه لا يبعد الإعتراض ممن كان في الأرض والعياذ بالله تعالى ويستأنس له بما ورد في بعض الأخبار أن القائلين كانوا عشرة آلاف نزلت عليهم نار فأحرقتهم قال الآلوسي: وعندي أن ذلك غير صحيح
• وقيل: إن القائل إبليس وقد كان إذ ذاك معدودا في عداد الملائكة ويكون نسبة القول إليهم على حد بنوفلان قتلوا فلانا والقاتل واحد منهم
قال الآلوسي: والوجه ما قررنا [وهوعين ما قررته في الأعلى]