سمعت أنَّ أحد كتَّاب الوحي الذين كانوا يكتبون الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان نصرانياً، وهل هذا يؤثر في مصداقية القرآن؟

يجيب عن السؤال الشيخ أنس الموسى

السؤال

سمعت أنَّ أحد كتَّاب الوحي الذين كانوا يكتبون الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان نصرانياً، وهل هذا يؤثر في مصداقية القرآن؟

الجواب

                                             بسم الله الرحمن الرحيم

نعم كان أحد كتَّاب الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم رجلاً نصرانياً، فأسلم ثم عاد نصرانياً، وكان يغيّر ما كان يمليه عليه النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان يقول مستهزئاً: ما أرى يُحسن محمدٌ إلاَّ ما كنت أكتب له؛ ففضحه الله تعالى  لخيانته الثقة التي منحه النبي صلى الله عليه وسلم إياها، بأن لفظته الأرض بعد موته بعد أن دفنوه مراراً.
وقد روى هذه الحادثة الإمام أبو داود الطيالسي وغيره عن أَنَسٍ بن مالك، «أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَكْتُبُ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ إِذَا أَمْلَى عَلَيْهِ: سَمِيعًا بَصِيرًا، كَتَبَ: سَمِيعًا عَلِيمًا، فَإِذَا كَانَ: سَمِيعًا عَلِيمًا كَتَبَ: سَمِيعًا بَصِيرًا، وَكَانَ قَدْ قَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ، وَكَانَ مَنْ قَرَأَهُمَا فَقَدْ قَرَأَ قُرْآنًا كَثِيرًا، قَالَ: فَتَنَصَّرَ الرَّجُلُ، وَقَالَ: إِنَّمَا كُنْتُ أَكْتُبُ مَا شِئْتُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، قَالَ: ‌فَمَاتَ ‌فَدُفِنَ ‌فَلَفَظَتْهُ ‌الْأَرْضُ، ثُمَّ دُفِنَ فَلَفَظَتْهُ الْأَرْضُ، قَالَ أَنَسٌ: قَالَ أَبُو طَلْحَةَ: فَأَنَا رَأَيْتُهُ مَنْبُوذًا عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ»(1)
وفي لفظ للبخاري ومسلم وأحمد وغيرِهما عَنْ ‌أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أيضاً: «‌كَانَ ‌رَجُلٌ ‌نَصْرَانِيًّا ‌فَأَسْلَمَ وَقَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ فَكَانَ يَكْتُبُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَادَ نَصْرَانِيًّا فَكَانَ يَقُولُ مَا يَدْرِي مُحَمَّدٌ إِلَّا مَا كَتَبْتُ لَهُ فَأَمَاتَهُ اللهُ فَدَفَنُوهُ فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الْأَرْضُ فَقَالُوا: هَذَا فِعْلُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ لَمَّا هَرَبَ مِنْهُمْ نَبَشُوا عَنْ صَاحِبِنَا فَأَلْقَوْهُ. فَحَفَرُوا لَهُ فَأَعْمَقُوا فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الْأَرْضُ فَقَالُوا هَذَا فِعْلُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ نَبَشُوا عَنْ صَاحِبِنَا لَمَّا هَرَبَ مِنْهُمْ. فَأَلْقَوْهُ فَحَفَرُوا لَهُ وَأَعْمَقُوا لَهُ فِي الْأَرْضِ مَا اسْتَطَاعُوا فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الْأَرْضُ فَعَلِمُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ النَّاسِ فَأَلْقَوْهُ.». (2)

وهذه الحادثة لا تعني أن القرآن قد حرِّف بل هو محفوظ لأسباب كثيرة منها:


1- الأصل في ثبوت القرآن هو الحفظ القلبي، والرسم إنما هو زيادة في الضبط، بحيث لو تُصُوِّر عدم وجوده فإنه لا يقع خللٌ في نقل القرآن؛ فالقرآن قبل أن يكون مكتوباً في السطور كان منقوشاً على صفحات قلوب كثير من الصحابة، بما تميزوا به من سرعة الحفظ وسيلان الأذهان، حتى كانت قلوبهم أناجيلهم، وعقولهم سجلات أنسابهم وأيامهم، وحوافظهم دواوين أشعارهم ومفاخرهم، وكانت هذه ميزة تميز بها العرب.

2- وجود هذا الكاتب الكاذب الخائن لا يضر في مقابل حفاظ القرآن الكُثر من المهاجرين والأنصار في حياته صلى الله عليه وسلم، ومنهم: الخلفاء الأربعة، وطلحة، وسعد، وابن مسعود، وحذيفة، وسالم مولى أبي حذيفة، وأبو هريرة وابن عمر، وابن عباس، وعمرو بن العاص، وابنه عبد الله، ومعاوية، وابن الزبير، وعبد الله ابن السائب وعائشة، وحفصة، وأم سلمة، وهؤلاء كلهم من المهاجرين رضوان الله عليهم أجمعين.
وحفظ القرآن من الأنصار في حياته صلى الله عليه وسلم أيضاً: أبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو الدرداء ومجمّع بن حارثة وأنس بن مالك وأبو زيد الذي سئل عنه أنس فقال أنه أحد عمومتي رضي الله عنهم أجمعين.
وقيل: إن بعض هؤلاء إنما أكمل حفظه للقرآن بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. وأيًّا ما تكن الحال فإن الذين حفظوا القرآن من الصحابة في حياته وبعد وفاته صلى الله عليه وسلم بلغوا ألوفاً، حتى كان عدد القتلى منهم ببئر معونة ويوم اليمامة أربعين ومائة، وقيل سبعمئة.
وممن حفظ القرآن عن الصحابة  الألوف من التابعين، وهكذا تلقته الأمة طبقةً عن طبقة بالحفظ والعناية والصيانة حتى وصل إلينا من غير زيادة ولا نقصان، ولا تحريف ولا تبديل، فكان تصديقاً لقول الله تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) [الحجر: 9] (3)
قال المحقق ابن الجزري مؤكداً أن الأصل هو الحفظ:

“ثُمَّ إِنَّ ‌الِاعْتِمَادَ ‌فِي ‌نَقْلِ ‌الْقُرْآنِ ‌عَلَى ‌حِفْظِ ‌الْقُلُوبِ وَالصُّدُورِ لَا عَلَى حِفْظِ الْمَصَاحِفِ وَالْكُتُبِ، وَهَذِهِ أَشْرَفُ خَصِيصَةٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِهَذِهِ الْأُمَّةِ”. وقال أيضاً: “وَلَمَّا خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى بِحِفْظِهِ مَنْ شَاءَ مِنْ أَهْلِهِ أَقَامَ لَهُ أَئِمَّةً ثِقَاتٍ تَجَرَّدُوا لِتَصْحِيحِهِ وَبَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ فِي إِتْقَانِهِ وَتَلَقَّوْهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرْفًا حَرْفًا، لَمْ يُهْمِلُوا مِنْهُ حَرَكَةً وَلَا سُكُونًا وَلَا إِثْبَاتًا وَلَا حَذْفًا، وَلَا دَخَلَ عَلَيْهِمْ فِي شَيْءٍ مِنْهُ شَكٌّ وَلَا وَهْمٌ، وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ حَفِظَهُ كُلَّهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَفِظَ أَكْثَرَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَفِظَ بَعْضَهُ، كُلُّ ذَلِكَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ”. (4)
ويؤكد هذه الحقيقة الحديث القدسي الطويل الذي رواه مسلم عَنْ ‌عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ وفيه: “إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لِأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ، وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ، تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ”. (5)  فأخبر تعالى أن القرآن لا يحتاج فى حفظه إلى صحيفة تُغسل بالماء، بل يُقرأُ في كل حال، كما جاء في صفة أمته صلى الله عليه وسلم: “أناجيلهم صدورهم”، وذلك بخلاف أهل الكتاب الذين لا يحفظونه إلاَّ فى الكتب، ولا يقرؤونه كله إلاَّ نظراً، لا عن ظهر قلب، أما القرآن فإنه يُقرأ عن ظهر قلب في كل حال، فلا يحتاج جامعه إلى النظر في صحيفة كُتبت بالمداد الذي ينطمس ويزول إذا غسل بالماء. (6)

3- أيضاً ليس هذا الرجل الخائن هو الوحيد الذي كان يكتب الوحي لرسول الله بل كان كتَّاب الوحي كثرٌ أيضاً، ومنهم: أُبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، ومعاوية بن أبي سفيان، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح القرشي العامري، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وخالد بن سعيد، وحنظلة بن الربيع، والعلاء بن الحضرمي، وأبان بن سعيد …

4- إن الله تعالى قد فضح هذا الرجل، واشتُهر أمره، فإذا كان قد كتَبَ وحرَّف، فإن ما كتبه محرفاً ذهب معه وبقي الحق الذي اتفق عليه كل أصحاب النبي من حفاظ الوحي وكتبته.

5- لو كان ما فعله هذا الخائن يؤثر في مصداقية القرآن، لكان من أكبر حجج أعداء النبي صلى الله عليه وسلم وأعداء كتاب الله، وهم الذين ما تركوا حيلة إلاَّ فعلوها للطعن بهذا الكتاب، وتحداهم الله أن يأتوا بمثله.

 6- إن لفظَ الأرض لهذا الخائن أمر خارج عن العادة، ويدلُّ كلَّ أحدٍ على أن هذا عقوبة لما قاله وأنه كان كاذباً؛ إذ كان عامة الموتى لا يصيبهم مثل هذا، وأن هذا الجرم أعظم من مجرد الارتداد؛ إذ كان عامة المرتدين يموتون ولا يصيبهم مثل هذا، وأن الله منتقمٌ لرسوله صلى الله عليه وسلم ممن طعن عليه وسبَّه ومظهرٌ لدينه، ولكذب الكاذب إذا لم يُمَكَّنِ الناسُ أن يقيموا عليه الحد. (7)
ملحوظة: لا يُعرف اسم هذا الكاذب، إلاَّ روايةً صرحت بأنه من بني النجار، كما في صحيح مسلم: “عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ. قال: ‌كان ‌منا ‌رجل ‌من ‌بني ‌النجار. قد قرأ البقرة وآل عمران…”. (8)
وأخيراً: الأصل في القرآن هو المسموع المحفوظ في الصدور لا المكتوب، والمكتوب إنما هو زيادة ضبط للمقروء فحسب؛ لذا فإن الاعتناء به من جهة تدوينه زيادة في الضبط وبقاء المحفوظ في الصدور، وليس أمراً مستقلاً. (9)
هذه العقوبة وهذه الفضيحة التي نزلت بهذا الكاذب الخؤون وعيدٌ لمن يظنّ أنّه يقدر أن يبدّل كلام الله، ذلك أنّ الله تعالى قد تعهّد بحفظه، كما قال: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [الحجر: 9].
وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


(1): مسند أبي داود الطيالسي (2132)؛ وينظر: سير أعلام النبلاء للذهبي (2/350).
(2):صحيح البخاري (3421)؛ صحيح مسلم (2781)؛ مسند أحمد (13324).
(3):ينظر: النشر في القراءات العشر لابن الجزري (1/6)؛ مناهل العرفان (1/242).
(4): النشر في القراءات العشر ابن الجزري (1/6).
(5):صحيح مسلم (2865).
(6):مباحث في علوم القرآن صبحي الصالح ص69؛ علوم القرآن د. عتر ص116؛ كتابات أعداء الإسلام ومناقشتها عماد السيد محمد الشربيني (389).
(7): الصارم المسلول في الرد على شاتم الرسول ص116-117.
(8):  ينظر: صحيح مسلم (2781).
(9): ينظر: المحرر في علوم القرآن د. مساعد الطيار ص152