سلسلة يا باغي الخير أقبل | المقالة الثانية | مالا يدخل في تعريف الصيام | الشيخ أنس الموسى

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا ونبينا محمد وعلى أله وصحبه أجمعين.

وبعد:

 فهذا هو اللقاء الثاني، ونحن نُعرّف الصيام. وقد تحدثنا في اللقاء الماضي عما يدخل في تعريف الصيام، واليوم سنتحدث عما لا يدخل في تعريفه.

 نقول وبالله التوفيق:

لا يكاد الناس يروا الهلال “هلال رمضان” حتى يغمر الدنيا ضوء من الخشية الهادية، والذكر الرفيع. لكن أقواماً ألبسوا رمضان ثوباً ليس بثوبه، وزينُوه وحلُّوه بما ظنُّوه حِلْيَةً، وزينة؛ فأخرجوه عن فحواهُ ومرادِ الله منه.. ما علموا أن الصيام مدرسة التقوى، ودار الهدى: من دخلها بنية صادقة، واتباع صحيح؛ خرج منه بشهادة الاستقامة.

 

1. ليس الصيام سبباً لإثارة الأعصاب، وتهييجاً للشرور، وإضعافاً لقوة التحمل، فلا تكاد تحدث أحدهم حتى تثور ثائرته، وتشتعل حفيظته، ويشتد غضبه، ويُرْغِي ويُزْبِد، ويقذف لسانه فاحش القول وهَجْرَ الكلام.. ويقولُ الناسُ من حوله: معذور.. معذور.. إنه صائم.

كلا أيها الإخوة ما هذا حال الصائم!! فلو كان صائماً؛ لكان مهذب الخلق؛ يملك نفسه، ويسيطر على أعصابه، فشعار الصائم ولو سابّوه أو شتموه: إني صائم .. إني صائم.

 

2. ظن كثير من الناس أن الصيام امتناع عن المفطرات، وليس إمساكاً عن الفواحش، فتركوا ألسنتهم تجول في أعراض الناس وعوراتهم، وهي صائمة!

ليس الصيام للجسد فقط، بل إن أهون الصيام كما قال بعض السلف: ترك الطعام والشراب؛ بل الصيام للروح والجسد، فمن لم يدع قول الزور، والعمل به، فليس لله حاجةٌ في أن يدع طعامه، وشرابه، وقد قيل: إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع عنك أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء.

إذا لم يكن في السمع مني تَصَاونٌ     وفي بصري غضٌّ وفي منطقي صمتُ 

فحظي إذاً من صوميَ الجوعُ والظما   فإن قلتُ إني صمتُ يوميَ فما صمتُ

 ما جدوى الصيام إيها الإخوة؟ إذا لم تتهذب فيه الألسنة، وتتطهر به النفوس؟

ما فائدة الحرمان؟ إذا لم يكن من ورائه عفَّةُ القول، وسماحة الكلام، ولين الحديث؟

3. الصيام  ليس سباقاً ماراثونيًا لملء البطون؛ فترى الأسواق تمتلئ بشكل غريب من الإسراف، ويروّج الباعة بضائعهم تحت شعار: رمضان كريم.. وما علاقة الإسراف بكرم رمضان؟!

 

4. الصيام ليس سباقاً تنافسياً، ما إن يضرب مدفع الإفطار حتى يبدأ ماراثون تناول الطعام، والانتقال من طبق لأخر، ومن صنف لأخر حتى يؤذن الفجر، والله يقول: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف31]، ورسول الله يقول: «حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه» [مسند أحمد 16735].

 

5. ليس من الصيام أن تعلق فانوس رمضان، وأنت لست بصائم، وليس من الصيام أن تحتفل بقدوم رمضان، دون صيام.

6. ليس رمضانُ موسمَ الموشَّحات الأندلسية، والطقوسِ التراثية، والزَجل.. الصيام يا قوم عبادة.. الصيام ياقوم عبادة.

7. ليس الصيام مَحْفِلاً ثقافياً فنياً تمتلئ فيه المقاهي، والشوارع ليلاً بدل المساجد.. ليس الصيام موروثاً ثقافياً مجتمعياً؛ بل هو شهر طاعة، وعبادة.

 

8. ليس من الصيام أن نكفّ عن المعاصي والآثام وقت موسم الصيام فقط، ثم لا يلبث أن ينقضي وقته، أو لا نلبث أن ندخل في ليلة العيد حتى يترك الناس الصلاة وتَفْرَغَ المساجد من روادها.

9. ليس معنى قيام رمضان أن نسهر حتى الفجر ثم نقوم لصلاة الفجر بعيون شبه مفتحة، وقلوب نائمة، ثم ننام بعد ذلك حتى المغرب فتَضيعُ الصلوات، ويتأخر العامل عن عمله بحجة قيام رمضان.

 

10. تحولت عبادة الصيام إلى عادة يحاول الناس أن يخففوا وطأتها، ويسهلوا شدتها بشُغْل وقتهم باختيار المشارب، وطبخ أصناف المآكل، واستعانوا على الصيام بنوم يستغرق يومهم؛ فالأعمال فيه معطلة والحياة راكدة أو شِبْهُ جامدة إلا المآكل. 

هل هناك أسوأ من أن تنقلب عبادة عظيمة كالصيام إلى عادة يقابلها الناس بتألم، واستكراه، ومشاعر متبلدة؟

ألهذا أمرنا الله بالصيام؟!! جنون في الإنفاق، وإهدار للزمن، وقعود عن السعي، واستنامة عن العمل؟.. تعالت حكمة الله عن ذلك علواً كبيراً.

 

11. ليس من الصيام وجود التسالي فيه .. وهل هذا وقت التسالي؟! التسالي أيها الإخوة: وظيفة القلوبِ الميتةِ، والسير الباردة، ومن يريد أن يعيش لا ليقول: اليوم خمر وغداً أمر بل حاله: اليوم خمر، وغداً خمر، وبعد غدٍ خمر.

 

12. نحن يا قوم أمة جريحة أسيرة ضعيفة، تناوشها أعدائها من كل جانب كقصعة كثر الآكلون حولها نسعى لتكون كلمة الله هي العليا فما لم يهب الله لنا من لدنه سلطاناً نصيراً فمن أين لنا النصر؟ ﴿وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ٱللَّهُ لَهُۥ نُورًا فَمَا لَهُۥ مِن نُّورٍ [النور، 40] فأين مكان التسالي؟!

 

13. رمضان يا قوم هو الشهر الذي قال عنه الله  ﴿شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدىً للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر[البقرة، 185].

رمضان هو الشهر الذي قال الله فيه ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة 183]ز

رمضان هو الذي ذكره رسول الله فقال: «رَغِم أنف عبدٍ دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له» الترمذي (3545).

 

14. رمضان يا قوم هو الشهر الذي تفتَّح فيه أبواب الجنة وتغلَّق فيه أبواب الجحيم./ يُنظر صحيح البخاري (3277).

15. فهل نُقْبِل على الله في هذه الأيام إقبالاً يكافئ ما أقبل الله به علينا من فضل ونعمة، وشفاء ورحمة؟

ترى هل يكتب لنا شرف السعادة فنؤوب إلى منابع الخير ونستأنف طريق الهدى، ونستقبل شهر رمضان موقنين أنه شهر الصبر، وشهر العبودية، وأنه شهر الجهاد شهر بدر والفتح، وأنه شهر ليلة القدر؟

ألا إنه ليس عزيزاً عليك يا ربَّ كلِّ شيء وخالقه، ومليكه أن تهب أمة حبيبك محمد يقظةً تنهض بها من عِثار، وتحملها إلى مواقع القوة، وتنهض وتسمو بها في معاني النصر من جديد. 

اللهم ربَّ شهرِ رمضان الذي أنزلت فيه الفرقان، وجعلته بينات من الهدى والفرقان بارك لنا فيه، وأعنا على صيامه، وقيامه وغض البصر فيه وحفظ اللسان، وتقبله منا.

 آمين آمين آمين

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.