سلسلة يا باغي الخير أقبل | المقالة الأولى | تعريف الصيام | الشيخ أنس الموسى

 

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى أله وصحبه وسلم.

الحمد لله الذي خصنا بشهر الطاعة، وأجزل لنا به المثوبة ورفع الدرجة، ووعد من صامه إيماناً واحتساباً بتكفير السيئات ورفع الدرجات.

وبعد :

فهذا هو اللقاء الأول من سلسلة لقاءات “يا باغي الخير أقبل” نتحدث فيها عن مكانة شهر رمضان والصيام فيه نقول وبالله التوفيق:

الله عز وجل خالق كل شيء، ويختار مما يخلق ما يشاء ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ [القصص 68]، فمن سنن الله عز وجل الاختيار والاصطفاء؛ فقد خلق البشر، واختص منهم الأنبياء، ومن الأنبياء اختص الرسل، وخلق الملائكة، واختص منهم جبريل وميكائيل وإسرافيل  ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ[الحج75]، والله خلق الجنان، واختار منها جنة الفردوس، واصطفى من البقاع بقاعاً؛ فاختار مكة والمدينة والمسجد الأقصى، وفضّل الله مكة على غيرها؛ فهي أم القرى، وفضّل من الأعمال خواتيمها.

وخلق الله عز وجل السنين والشهور، والأسابيع والأيام والليالي، فاختص من الشهور شهر رمضان، ومن شهر رمضان اختص العشر الأواخر منه، ومن العشر الأخيرة اختص ليلة القدر؛ فالحمد لله الذي خصنا بشهر الطاعة.. شهر رمضان، وكلفنا فيه الصيام فقال ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ[البقرة 185]

وها نحن هذا العام نستقبل شهر رمضان بقلوب ملؤها الحزن على مصاب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.. في الشام، وفلسطين، والعراق، وبورما، وغيرها من بلاد الإسلام.

أينما اتجهت إلى الإسلام في بلدٍ تجده كالطير مقصوصاً جناحاه؛ فنسأل الله الذي جمعنا برمضان، وجمع رمضان بنا، أن يجمع قلوب المسلمين على بعضهم كجسدٍ واحد، وعضوٍ واحد، وأن يفرّج عنهم، وأن يختار رمضان هذا العام ليكون رمضان النّصر والعزّ، والسؤدد للإسلام والمسلمين.. آمين آمين.

ونحن إذ نتحدث عن مكانة شهر رمضان، والصيام فيه لا بد من تعريف الصيام؛ تعريفاً نوضّح من خلاله ما يدخل فيه وما لا يدخل.

لابد أولًا: أن نتذكر أن صيام رمضان هو أحد أركانٍ خمسةٍ بنيَ عليها بناء الإسلام، وقد عرّف الفقهاء الصيام فقالوا: “هو الامتناع عن الطعام والشراب، وسائر المفطرات من طلوع الفجر الصادق، إلى غروب الشمس بنية القربة”.

ولكن لصيام رمضان معانٍ، وحدوداً أخرى لم تذكرها تعاريف الفقهاء؛ فرمضان هو:

    1. الشهر الذي يصوم فيه الناس عن أحقادهم وآثامهم وشرورهم، فكونوا أيها الصائمون أوسع صدراً، وأعفَّ لساناً، وأبعدَ عن الخصومة.
    2. الصيام هو الذي يعلمنا كيف نمسك زمام نفوسنا، من أن تذِلَّ الشهوة، أو تُسْتَرَقَّ لنزوة، أو تنحرف في تيار الهوى الضال عن صراط الله المستقيم.
    3. رمضان هو ترويضٌ لإرادة الإنسان؛ بإيثار داعي الله على كل هوى، وشهوة.
    4. رمضان هو هدية السماء، وبركة أهل الأرض؛ فهو منةٌ عظمى، ونعمةٌ كبرى لا يَقْدِرُ قدرها إلا المشمِّرون.
    5. رمضان هو الشهر الذي يجعل الناسَ كأسرةٍ واحدة، أو طلابٍ في مدرسةٍ داخليةٍ واحدةٍ حيث يمسكون جميعاً عن الطعام والشراب، ويفطرون جميعاً.
    6. رمضان هو استراحة روحية نستروح، ونتخفف فيها من أعبائنا، وأحزاننا؛ فهو منةٌ ربانية تنسينا روتين الحياة ورتابتها.
    7. شهر رمضان الذي يعيد للأسرة – التي فكّكتها هموم الحياة ومشاغلها – ارتباطها من جديد، ويبرز بشكلٍ واضحٍ تلاحمَ العائلة حيث الجميعُ يجلسون على مائدة الإفطار والسحور ويصف الجميع أقدام العبادة لرب العالمين.
    8. رمضان هو بداية صفحة جديدة تحتاج منا نيةً صالحةً جديدةً أيضاً.. نيةُ من أراد رضوان الله.. نية من أراد أن يغيره رمضان نيةُ.. من يردِ الله أن يرده إليه رداً جميلاً.
    9. رمضان والصيام تذكير للمؤمن بحقيقته الروحية وراء عوارض الجوع والشبع والري والظمأ، وهو تذكير للروح أيضاً لتحريرها من الغفلة.
    10. رمضان، والصيام يدفعان الإنسان للالتفاف حول آلام غيره، ومعاناته؛ فرمضان يوقظ معاني الإنسانية القابعة بدواخلنا، لنتحرك نحو إخواننا فمن عاش لنفسه عاش صغيراً، ومات صغيراً، ومن عاش لغيره عاش كبيراً، ومات كبيراً.
    11. رمضان شهر مُهَذِّبٌ للسلوكِ وسيِّءِ الأخلاق؛ لأن شعار المؤمن فيه إني صائم…إني صائم.
    12. الصيام تهذيب.. لا تعذيب، وإذا لم يؤت الصيام ثمراته فليس العيب فيه؛ بل العيب في الصائم؛ لهذا نبهنا رسول الله أن يكون صيامنا عن إيمانٍ، واحتسابٍ، وتعظيم لشعائر الله لا تقليداً ومسايرة.
    13. رمضان، والصيام فيه يعلمنا كيف نكون عباداً ربانيين لا رمضانيين نتعرّض لنفحات الله في رمضان، وغيره.
    14. رمضان هو شهر بر الوالدين، وصلة الأرحام، وهو شهر الرحمة فيجب أن نتراحم، وشهر المحبة فيجب أن نتحابب، وشهر صفاءٍ فينبغي أن نتصافى.
    15. رمضان شهر يعودنا النظام .. النظام الذي قامت به السماوات والأرض ﴿وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ[الرحمن، 7]؛ فالصيام يعلم الصوَّام فعل الأشياء، وتركها في أوقاتها المناسبة لها دون تقديم، أو تأخير؛ فالناس في رمضان يقيسون الزمن بالدقائق والثوان، فلا يتقدمون الإفطار بدقيقة، كما لا يتأخرون عن الإمساك ثانية.
    16. رمضان شهر تفتح فيه أبواب الرحمة أبواب الجنة، وتُغلق فيه أبواب السّعير، وما بين الفتح والإغلاق معانٍ عظيمةٍ من إقبال الله على عباده، وتجليه لهم، وما بين فتح أبواب الجنة وإغلاق أبواب الجحيم وتصفيد الشياطين، يطلُب الله منا بذل قليل الجهد والمشقة، وما أهون ذلك بعد أن زال عن النفس عونُ قرينها المصفَّد.
    17. رمضان هو الشهر الذي تعلن فيه حالة التّأهب القصوى في كثرة الذكر، والتّبتُّل وكثرة القيام، فرمضان هو زاد من لا زاد له، وذُخر من قلّت ذخيرته.
    18. وأخيراً: نحن أمة غلبت علينا شهواتنا؛ فغلبت علينا شقوتنا، فمنحنا الله من لدنه فرصة يمنحها في العام مرة نغسل فيها أوضارنا، ونحصل فيه المدد لعزائمنا، والنور لبصائرنا، والقوة لنفوسنا.. فهل نقبل على الله في هذه الأيام إقبالاً يكافئ ما أقبل الله به علينا من فضل ونعمة، وشفاء ورحمة؟.. نسأل الله عز وجل ذلك.اللهم كما بلغتنا رمضان أعنا به على الصيام، والقيام وغض البصر وحفظ اللسان.

آمين  آمين  آمين.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.