سلسلة يا باغي الخير أقبل | المحاضرة السادسة | الصبر مطيّة لا تكبو | الشيخ أنس الموسى



الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:

فهذه هي المحاضرة السادسة في سلسلة “يا باغي الخير أقبل” نتحدث فيها عن فضائل شهر الصيام، ومرابح الصائمين.. شهر رمضان الذي لاتنقضي نفحاته فكله هِبَات وعطايا، ومنح وبركات.

لقد تحدثنا في اللقاء الماضي عن مدرسة التقوى؛ ولأن التقوى لا تقوم إلا على ساق الصبر، واستكمالاً للحديث سنتكلم عن مدرسة الصبر في شهر رمضان، وسيكون اللقاء بعنوان: الصبر مطية لا تكبو.

نقول وبالله التوفيق:

  1. ذكرنا سابقًا أن العبادة إن لم يكن لها أثر في إثارة دوافع الخير لا فائدة من إتعاب الإنسان بها؛ فمن لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجةٌ في أن يدع طعامه وشرابه. فكم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش؛ هذا الذي يدفعنا للحديث عن خلق من أنبل الأخلاق التي يربينا عليها شهر الصيام، وهو خلق الصبر؛ فقد سمى رسول الله شهر رمضان بشهر الصبر عندما قال: «صيام شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر يذهبن وحر الصدر» مسند أحمد 22560.

  2. الصبر أيها الإخوة أساس كل خلق عظيم، وتختلف أسماؤه باختلاف معانيه؛ فإن كان في حبس النفس لمصيبة سمي صبرًا، وإن كان في إمساك كلام سمي كتمانًا، وإن كان عن شهوة الفرج سمي عفة، وإن كان في محاربة سمي شجاعة، وإن كان عن فضول عيش سمي زهدًا، وإن كان عن إجابة داعي الغضب سمي حلمًا فكل هذه المعاني يرجع معناها للصبر.

  3. حسبنا من خلق الصبر أنه يسهل على العبد مشقة الطاعة، ويهون عليه ترك ما تهواه النفوس من المخالفات؛ فإن كان الصبر يهون على أهل الدنيا مشاقها لتحصيل حطامها فكيف لا يهون على المؤمن ما يحبه الله لتحصيل النعيم في الدنيا والآخرة؟

  4. إن تحلّي المؤمن بخلق الصبر يظهر أثره على كل حياته فتراه يُقبِل على مشاقّ الحياة، ويترك سفسافها يحتسب كل ذلك في سبيل الله؛ فالصائم المحتسب إذا أوذي أو شتم لا يغضب، ولا يقابل الإساءة بمثلها، ولا يتجاوز في الرد عليها قوله: إني صائم. فحاله يقول لمن أساء إليه: افعل ما شئت فقد عاهدت ربي بصومي أن أحفظ لساني وجوارحي فكيف أخيس العهد؟؛ فيكون كخير ابني آدم عندما قال لأخيه: ﴿لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ [المائدة، 28].


  5. فلئن كان الصوم قد علمنا أن نصبر اليوم عن طاعة واختيار؛ فنحن غدًا أقدر على الصبر والمصابرة في البأساء والضراء وحين البأس.
  6. ولئن كان الصوم قد علمنا كيف ننتصر اليوم على نفوسنا فلقد أصبحنا به أجدر أن ننتصر على عدونا.

  7. رمضان شهر الصبر؛ لأن فيه الصبر على فعل الطاعة، والصبر على ترك المعصية. فإن الصبر يكون على فعل المأمور، وترك المحظور، ويكون على المقدور، وإن الصبر على فعل المأمور، وترك المحظور أشد على النفس من الصبر على المقدور؛ لأن الصبر على المقدور يستوي به المؤمن وغيره فلا خيار لك على المقدور إلا الصبر.
    فالصائم يصبر على ترك طعامه، ومألوفاته، ومانُهي عنه وقت الصوم، ويصبر على ماتشتهيه نفسه وتطلبه؛ فيقول لنفسه بكل شجاعة ورباطة جأش: لا يا نفس لن تذوقي ذواقًا ولن تشربي شرابًا، ولن تنالي شهوتك حتى يأذن لي ربي.

  8. رمضان شهر الصبر لأنه يعودنا الصبر على ما فاتنا إدراكه من رغبة مرجوة، والصبرَ على ما أُعْوز نيله من مسرة مأمولة؛ فإن الصبر عنها يُعْقِبُ السُّلُو عنها فالأسف بعد اليأس خَرَق.

  9. رمضان شهر الصبر؛ لأن أمة الإسلام لا تَخرج عن سَنَن الله فهي عُرضة للحوادث والكوارث فتحتاج لصبر لا يفت من عضدها ولا يؤثر في سيرها.

  10. رمضان شهر الصبر لأن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد فإذا قطع الرأس باد الجسد. فلا إيمان لمن لا صبر له كما قاله سيدنا علي رضي الله عنه.


  11. رمضان شهر الصبر لأن الله يحب الصابرين، ولأنه ما أعطي أحد عطاءً خير، وأوسع من الصبر، ولأنه إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب، ولأن الناس إنما يتفاضلون بالصبر، ولأن الصبر جماع الأمر، ونظام الحزم، ودعامة العقل، وبذر الخير وحيلة من لا حيلة له، فمن أجمع على الصبر في الأمور فقد حوى الخير والتمس معاقل البر وكمال الأجور، ولأن الله يقول: ﴿سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ۚ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ[الرعد، 24].

  12. فيا أيها الصائمون هذا رمضان يعلمنا الصبر، ويربينا على خُلُقه فليكن لنا منه أوفر حظ، وأكمل نصيب، وليكن زادًا لنا فيما نستقبله من أعمارنا.

  13. فيا أقدام الصابرين احملي فلم يبق من دنيانا إلا القليل، ويا همة تطمع في بلوغ مرتقى رابطي واصبري وصابري.


اللهم أسبغ علينا سابغات صبر لتذوق أرواحُنا طعمه، فما أشد حاجتنا له.

اللهم أعنا على الصيام والقيام وسلمنا لرمضان وتسلمه منا متقبلًا.

آمين آمين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.