سلسلة يا باغي الخير أقبل | المحاضرة السابعة | لا يا قيود الأرض | الشيخ أنس الموسى



الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

 فهذا هو اللقاء السابع في سلسلة “يا باغي الخير أقبل” نتحدث فيه عن أهمية، ومكانة شهر رمضان والصيام فيه.. الصيام الذي قال عنه رسول الله «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ماتقدم من ذنبه» [البخاري 38]، وقال عنه أيضًا: «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به» [البخاري 5927].

ولَئِن كان الصوم مدرسةً علمتنا كيف نصبر، ونتق فإنه أيضًا مدرسة تعلمنا الإخلاص لربنا سبحانه؛ لهذا سنتحدث اليوم عن مدرسة الإخلاص في شهر الصيام وسيكون اللقاء بعنوان “لا يا قيود الأرض”

نقول وبالله التوفيق:

      • ما السبب الذي جعل الصيامَ عبادةَ الإخلاص، ومدرسةً تعلم الإخلاص؟ الجواب:
  1. لأن داعي الرياء في الصيام ضعيف فهو عبادة تركٍ لا فعلٍ؛ فالفعل يُرَى أما الترك فلا يُرى؛ فيصوم المرء، وأقرب الناس إليه لا يعلم بحاله فالصيام لا يدخله الرياء بمجرد فعله بل بالإخبار عنه بخلاف بقية الأعمال فإن الرياء يدخلها بمجرد فعلها.

  2. الصيام يُعَلّم الإنسانَ مراقبة الله عزوجل، يكون صائمًا في حر شديد، ويمشي في الحر لحاجته ومصالحه ثم يرجع لبيته وقد أحاط به الظمأ وكأس الماء البارد أمامه، أحبُّ إليه من الدنيا وما فيها، ثم يتوضأ ويتمضمض بالماء الذي يظمأ له ويجعله في فمه ولو ابتلع منه جزءًا يسيرًا يطفئ به ظمأه لما اطّلع عليه أحد، ومع ذلك يخرجه ولا يبتلعه لأنه يراقب الله فهو لا يحتاج لأجهزة مراقبة لأن الصيام ربّاهُ وهذّبَهُ.

  3. لقد عرفوا الإخلاص فقالوا هو التعرّي عما دون الله ، ونسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الحق. فالإخلاص خلاص لله ، وتجرد عن أوحال الطين فما صَدَقَ عبد في عبوديته لربه، ولأحد المخلوقين عليه ربانية. ففي الإخلاص خَلاصٌ من ذُلِّ العبودية للخلق، إلى عزِّ العبودية للخالق. ولو نَفَعَ العملُ بلا إخلاص فَلِمَ ذمَّ اللهُ المنافقين إذًا؟
  4. الإخلاص هو العبودية، والحرية بأكمل أوصافها، وأبهى معانيها، ونقصد بالحرية والعبودية: حرية القلب، وعبودية القلب؛ فالصائم يطرح من قلبه أغلالَ الرياءِ وقيودَ الأرض ليصير قلبه عبدًا حرًا مما سواه ﴿أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا[الأنفال 4].
     تَفيــض نُفــوسٌ بأوصــابها ** وتكتُـــمُ عـوَّادها ما بها
    وما أنصَفَت مهجة تشتكي ** جَوَاها إلى غير أحبابها


  5. الصيام مدرسة الإخلاص، وعبادة الإخلاص؛ لأنها عبادة خفية وسرٌّ بين العبد وربه ،لا يطّلع عليها ملك فيكتبها، ولا شيطان فيفسدها، ولا هوى فيُمِيلُها، فما صام منافق مراءً قطُّ؛ لأن الأعمال لا تستقيم إلا إذا استقام القلب، ولا يستقيم القلب إلا بإخلاص النية لله سبحانه؛ لهذا قال رسول الله «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه».

  6. الصيام مدرسة المراقبة فالصائم يراقب قلبه، ويرى ربه؛ لأن من يعمل عَمَلَ الآخرة للدنيا فليس له في الآخرة نصيب؛ فالجنة لا تَطْلُب إلا قلباً خالصًا ﴿مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ [يوسف 79]، فالدنيا والآخرة ضَرَّتان من أَحَبَّ أحدهما أَضرَّ بالأخرى ومَن أضرَّ بأحدهما أحبَّ الأخرى فـ ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ ۝ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ ۖ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُوْن[هود 15-16].

  7. رمضان دورة تدريبية مكثّفة في تعويد الإخلاص ففي الحديث الإلهي: «يدع أحدُهم طعامَه وشهوته من أجلي» من أجل الله لا من أجل أحد من الناس لا محبةً لأحدٍ ولا خِشيةً من أحد؛ لهذا استحق الصيام أن يكون لله «إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به» وشتّان بين عمل تريد به وجه الله، وعمل تريد به مدح الناس، وثنائهم.
    رحم الله ابن عطاء الله السكندري عندما قال: “كما لا يُحِبُّ العملَ المشترَكَ لا يحب القلبَ المشترَكَ، فالعمل المشترك لا يَقْبَلُهُ والقلب المشترَكُ لا يُقْبِلُ عليه”.
    لقد أخذت دودة القزِّ تَنْسِج الحريرَ فأقبلت العنكبوت تتشبَّهُ فقالت: لكِ نَسْجٌ ولِيَ نَسْجٌ. فقالت دودة القزِّ: نسجي أَرْدِيَةُ بناتِ الملوك، ونَسْجُكِ شبكة الذُّباب وعندَ مسِّ النسيجين يظهر الفَرْق.
    كل عبادة قد يدخلها الرياء حتى الصلاة والصدقة، وحتى قراءة القرآن، والجهاد في سبيل الله.. إلا الصيام فإنه عبادة أُسُّها الإخلاص وسَدَاها ولُحْمَتُها الإخلاص، ولِريح المخلصين عِطْرِيَةُ القَبُول وللمرائي ريحُ السَّمُوم، فمن صام رمضان إيمانًا، واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه.
    لمّا مات علي بن الحسين، وغسَّلوه فجعلوا ينظرون إلى آثار سوادٍ في ظهره فقالوا ما هذا؟ فقيل: كان يحمل جُرُبَ الدّقيق على ظهره يعطيها فقراء المدينة، ولم يكن الفقراء يدرون من أين معاشهم. فلما مات علي بن الحسين فقد الفقراء ما كانوا يُؤْتَون به في الليل.

  8. إن الله ينظر للقلب فقط؛ فإذا اطّلع الخبيرُ البصيرُ على ما في الضمير، فلم يجد فيه غيرًا جعل فيه سراجًا منيرًا. فنعمت بضاعة الآخرة الإخلاص. لا يرتفع بها إلا المخلصون ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة 5] ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[الأنعام 162]  فالإخلاص انطلاق من قَيْد الأرض، وتحقيق لمعاني السمو ﴿أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ [التوبة 38].
     قلت للصقر وهو في الجـــــو عالي ** اهبط الأرضَ فالهواءُ جَـــدِيبُ
     قال لي الصقر في جناحي وعَزْمي ** وعَنان السماء مَرعى خَصيبُ


وأخيرًا ما أحوجنا إلى الصيام، بل ما أحوجنا للإخلاص، بل ما أحوجنا للفرار من الرياء، والصيام خير عَوْن.

الإخلاص مِسْكٌ مصون في مُسَكِ القلب، نتعرف عليه بريحه، والأعمال بدونه قشر خال من اللباب، بل صور قائمة وأرواحها وجود سرِّ الإخلاص فيها.

فأخلصوا أيها الإخوة يَكْفِكُم العمل القليل.. فخَلِيجٌ صافٍ خيرٌ من بحر كَدِرٍ.

ويا رمضان: أطلق الروح من بحر الهوى لتحلق في فضاءات الحرية والعبودية.

 ويا إخوتاه: لا تكونوا كالمسافر يملأ جُرابَه رملًا يُثْقِلُه، ولا ينفعه.

يا رب: أيُّ حياة تلذّ، وتطيب وأنت علينا ساخطٌ؟!

يا رب: عبيدك سوانا كثير، وليس لنا سيدٌ ومولى سواك، فاقبلنا وتقبل منا قليل العمل.

اللهم أعنا على الصيام والقيام وغض البصر وحفظ اللسان.

آمين آمين

وآخر دعوانا إن الحمد لله رب العالمين.

وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.