سلسلة مِنْ أَدَبِهِ قَبْلَ عِلْمِه | أهمية الأدب في حياة المسلم | المقالة الأولى | الشيخ أنس الموسى

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيِّدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم إنا نستهديك لأرشد أمرنا وزدنا علمًا ينفعنا. 

وبعد:

فهذا هو اللقاء الأول من سلسلةٍ نتناول فيها سلوك المسلم وآدابِه، وسيكون عنوان هذه السلسلة “مِنْ أَدَبِهِ قَبْلَ عِلْمِه”، واليوم بمشيئة الله سنتحدث عن أهمية الأدب في حياة المسلم. 

يقول الحكماء: إنَّما يُعرف الرجال بتعلُّقات قلوبِهم، فإذا كان مكنونُ القلب يكشِفُ عن حال صاحبه، فإنَّ الأخلاق والآدابَ أيضًا معيار ثابت راسخ به يحصل التمايز بين الناس، فكثيرون هم عُمَّارُ المساجد، وكثيرون هم زوار البيت، وكثيرون هم طلابُ العلم وحملتُه، وكثيرون هم القراء، فكيف يتفاوتون؟ أليس بحُسْنِ أخلاقهم وآدابهم؟

أيها الإخوة: إسلامنا اهتم بالأخلاق والآداب واحتفى بها، بل إن نبينا محمدًا قالها صريحةَ واضحةَ: «إنما بُعثتُ لأتمِّم مكارم الأخلاق»، وربنا سبحانه وتعالى خاطب نبيه فقال له: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم 4] وقال له أيضًا: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ [آل عمران 159].

 أيها الإخوة: ليست قاعدةُ “ما أُخِذَ بالقوة لا يُسْتَرَدُّ إلاَّ بالقوة”، قاعدةً مطردة، فما لا يمكن تحقيقه بالقوة من الممكن تحقيقه بالأدب والودّ والتغافل.. كما أرشد لهذا بيان الحق سبحانه: ﴿تأمرونَ بالمعروفِ وتَنْهَوْنَ عنِ المُنْكَر﴾ [آل عمران 110]. وقال تعالى أيضًا: ﴿فقولا لهُ قولًا ليِّنًا لعلَّهُ يتذكَّرُ أو يَخْشَى﴾ [طه 44]. 

يقول يونُس الصدفي، وهو أحد من روى عن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى : “ما رأيتُ أعقلَ من الشافعيِّ، ناظرتُه يومًا في مسألةٍ، ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى، ألا يستقيم أن نكون إخوانًا وإن لم نتفق في مسألة؟”. 

الناظر في سيرة النبي ، وسيرةِ أصحابه – الذين رباهم – يدرك أن هناك صفةً تميزه وتميز أصحابه، ألا وهي الأدب فانظروا إلى رسول الله وهو يقول معلمًا مؤدبًا: «لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ خَبُثَتْ نَفْسِي وَلْيَقُلْ لَقِسَتْ نَفْسِي» ومعنى لَقِسَت نفسي أي: ساءَ خُلقها، وقيل مالت به إلى الدَّعة، وإنما كره من ذلك اسم الخَبَث لبشاعته مع أنَّ خَبُثت ولقِسَت متقاربة المعنى – فاختار اللفظة السالمة من ذلك، فقد كان من هديه تبديلُ الاسم القبيح بالحسن، ، فأرشد للعدول عن هذه اللفظة إلى لفظ أحسن تعليمًا للأدب في المنطق.

وكيف لا يفعل رسول الله هذا وهو الذي قال للسيدة عائشة رضي الله عنها: «أي عائشة، إن شرَّ الناس منزلة عند الله من تركه – أو وَدَعَهُ الناس – اتقاء فُحشه»

بل كيف لا يتصف أصحابه بالأدب وهو الذي رباهم وصنعهم على عينه؟! فهذا أبو الدرداء يقول: «إنَّا لَنَكْشِرُ فِي وُجُوهِ أقْوَامٍ وإنَّ قُلُوبَنا لَتَلْعَنُهُمْ» [الكَشْرُ: ظُهُور الْأَسْنَان عِنْد الضحك]

انظروا إلى أدب الفاروق عمرَ ابنِ الخطاب رضي الله عنه ماذا قال وقد خرج ليلةً يَعِسُّ في المدينة فرأى نارًا موقدة في خباء فوقف وقال: ” يا أهل الضوء” وكره أن يقول يا أهل النار..

إنه الأدب الذي جعل العباسَ بنَ عبدِ المطلب – عمُّ النبي – يقول عندما سُئِلَ: أيهما أكبر أنت أم محمد ؟ فأجاب: “هو أكبر مني وأنا ولدت قبله” 

إنه الأدب الذي جعل الفضل بن الربيع – وزير هارون الرشيد – يجيب عن سؤال الرشيد عندما رأى في داره حزمة من الخيزران فقال له ما هذه؟ فأجاب الربيع: “عروق الرماح يا أمير المؤمنين”؛ أدبًا مع الرشيد لموافقته لاسم أمه الذي كان خيزران.

لقد صارت أمثال هذه الآداب سجية تزين الرجال والنساء وغدت فِرَاسَةَ تُسمَّى بحقٍّ: فراسةَ تحسينِ الألفاظ.

فراسةُ تحسين الألفاظ نراها عندما سأل أحدُ الخلفاء ولده – وفي يده مِسْواك – ما جمع هذا؟ فأجاب: ضدُّ محاسِنِكَ يا أمير المؤمنين؛ خِشْيةَ أن يقول: مساويك. (جمع مسواك هو مساويك وهو ليس بخطأ لكن أدب ابن الخليفة حال بينه وبين الإجابة بكلمة قد تَلمحُ فيها سوء أدب. وكأني بالوالد يريد تعليم وتأديب ولده.. ولكن يبدو أن الولد فرع أبيه حتى في الخُلق والأدب.

فراسة تحسين الألفاظ نراها يوم كان لبعض القضاة جليسٌ أعمى وكان إذا أراد أن ينهض يقول لغلامه: يا غلام اذهب مع أبي محمد، ولا يقول: خذ بيده. حتى إنه لم يُخِلَّ بها مرة. (كسر الخواطر ليس من الأدب)

وأصل هذا وأمثالُه كثير قول الله عز وجل: ﴿وقولُوا للنَّاسِ حُسْنا﴾ [البقرة 83] وفي قراءة (حَسَنًا)، فربَّ كلمةٍ طيبةٍ لا تلقي لها بالًا تُوقِظُ أملًا في نفْسِ سامعها وأنت لا تدري. 

وصدق رسول الله إذ يقول: «لا تَحْقِرَنَّ من المعروف شيئًا ولو أن تَلْقَ أخاكَ بوجهٍ طَلْق».

 قد نقابِل شخصًا يكافِحُ في معركة الحياة ونحن لا نَعلمُ مدى تعبِه ونَصَبِه..! فلنَكُن بَلسمًا لجُرحِه لا عَلْقمًا يَزيدُ جُرحَهُ عُمْقًا.

نكمل الحديث عن أهمية الأدب في اللقاء القادم بإذن الله تعالى.

اللهم وفقنا لمحابك وألهمنا مراشد الصواب والهداية

وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.