سلسلة من أدبه قبل علمه | ثمرات التمسك بالآداب | المقالة السابعة | الشيخ أنس الموسى

 

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيِّدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم إنا نستهديك لأرشد أمرنا وزدنا علمًا ينفعنا.

وبعد: 

فهذا هو اللقاء السابع في سلسلة من أدبه قبل علمه وقد تحدثنا في اللقاءين الماضيين عن الأدب في الكتاب والسنة، كما بينا في اللقاءات التي قبلهما أن التمسك بالأخلاق والآداب هو في حقيقته تمسكٌ بعرى الدين؛ لأن الآداب والأخلاق هي من الإسلام فلا شك إذًا أن التمسك بالآداب الشرعية يقود إلى الالتزام بتعاليم الإسلام وأحكامه وما نراه اليوم من ضعف المسلمين وتراجع شوكتهم مرجعه البعد عن حقيقة الإسلام وجوهرِه فالنبي إنما بُعِثَ ليتمِّمَ مكارِمَ الأخلاق.

واليوم بمشيئة الله تعالى سنتناول ثمرات التمسك بالآداب.

أيها الإخوة: إن من فضل اللّه ونعمته على خلقه، أن جعل الأدب وحُسنَ الخلق عبادةً، وأرسل الرسل ليحددوا للناس مكارم الأخلاق وحَسَنَ الآداب، ولقد اتفقت دعوة الرسل إلى مكارم الأخلاق؛ لأنها من ركائز الفطرة التي فُطِر الناسُ عليها.

أيها الإخوة: إن ثمرات التمسك بالآداب تختلف باختلاف نوع الأدب فلكل أدب ثمراته، فإذا كنا نتحدث عن أدب الحوار مثلًا لا بد أن ننظر للنتيجة التي نحصلها من التحلي به وهذه النتيجة هي ثمرته.

فالحوار الهادئ الهادف مثلًا – وهو من الآداب – حتى يؤتي ثمرته لابد أن يتصف بصفات منها: 

لابد في الحوار البنَّاء من إصغاء الأطراف المتحاورة لأفكار الآخرين والتفاعل معها بُغيةَ الوصول للحق والصواب.

ولابد أن يتسم الحوار بالهدوء والموضوعية، وأن تكبح الأطراف المتحاورة الغضب عند تشاحح الآراء، وألاَّ يوجد مانع من الاستفادة من آراء وأفكار الطرف الآخر المحاور عند طرحها وعرضها، وأن يكون بعيدًا عن التزمت بالرأي.

ولا بد أيضًا أن يكون الحوار عريًّا عن الجدال، فالفرق كبير بين الحوار والجدال، خصوصًا وأنَّ النبي قال: «أنا زعيم ببيت في رَبَضِ الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحًا وببيت في أعلى الجنة لمن حَسُنَ خُلقه».

ولننظر إلى رسول الله كيف عالج مشكلة كبيرة عند أحد صحابته بالحوار دون تشنج وبكل هدوء ورَوِيَّة، وذلك عندما جاءه فتى شابٌّ وقال له يا رسول الله ائذن لي بالزنا!! فماذا أجابه رسول الله ؟ هل قال له يا فاسق يا قليل الحياء تأتي لرسول الله وتطلب منه أن يبيح لك كبيرة من كبائر الذنوب؟ أو هل أمر أصحابه أن يوسعوه ضربًا أو يسجِنُوه تعزيرًا عما طَلَبَ، أو صاح به أو زجره أو أو.. بل كل هذا لم يحدث.

إذًا ما الذي حدث؟!

أخذه رسول الله بكل رفق ورحمة، ثم قال له بأسلوب حواري مؤدب هادئ: «ادنه، فدنا منه قريبًا قال: فجلس قال: أتحبه لأمك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، قال: أفتحبه لابنتك؟ قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم، قال: أفتحبه لأختك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم، قال: أفتحبه لعمتك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم، قال: أفتحبه لخالتك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم، قال: فوضع يده عليه وقال: اللهم اغفر ذنبه وطهِّر قلبه، وحصِّن فرجه»

فماذا كانت نتيجة هذا الحوار الذي يفيض حكمة وأدبًا؟ قال: فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء.

يمكننا القول إن طريقةَ معالجة النبي لمشكلة هذا الشاب بحكمة وحسن أدب هي ثمرة من ثمرات التحلي بالأدب. 

أيها الإخوة: إن معاملة النبي لهذا الشاب بهذه الطريقة ساعدته على أن ينتهج السلوك القويم بلهفة عالية، وبقلب منشرح، فالإنسان الفظُّ في تعاملاته يكون مُبعداً من الجميع حتى لو كان يتكلم الحق.

وللنظر إلى ذلكم الأعرابي الذي جاء يطلب من رسول الله عطاءً ولكنَّ طلبَه كان مشوبًا بنوعٍ من الغلظة وشيءٍ من سوء الأدب.

 يروي أنس بن مالك قال: ” كنت أمشي مع رسول الله وعليه بُرد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه جبذةً، حتى رأيت صفح – أو صفحة – عنق رسول الله ، قد أثَّرت بها حاشية البُرد من شدة جبذته، فقال: يا محمد أعطني من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه، فضحك ثم أمر له بعطاء “.

ماذا لو حدث مع أحدنا ما حدث رسول الله ؟ فما كَهَرَهُ رسول الله ولا شتمه ولا قذفه بل ضحك وأمر له بعطاء فدفع الإساءة بالحسنى، وملك قلب الرجل وفؤاده. هذا هو الأدب وتلك هي ثمرته.

أو لننظر إلى ذلكم الأعرابي – الذي ترك كل صحراء المدينة المترامية الأطراف – ثم جاء للمسجد فبال فيه، فكيف عالج رسول الله هذه القضية؟ لنترك أبا هريرة يقصُّ علينا قصته، قال: «إن أعرابيا دخل المسجد ورسول الله جالس فصلى ركعتين، ثم قال: اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحدًا، فقال النبي : «لقد تحجرت واسعًا». ثم لم يلبث أن بال في ناحية المسجد فأسرع الناس إليه، فنهاهم النبي وقال: «إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين، صُبُّوا عليه سِجْلاً من ماء» أو قال: «ذَنُوبًا من ماء». وفي بعض الروايات أن النبي قال لأصحابه: «لا تزرموا عليه بولته وأهريقوا عليه سِجلا من ماء».     

أيها الإخوة: تشكّل الآداب العامّة حياة المجتمعات المختلفة وهي الضامن الرئيسي الذي يمكن له أن يعمل على ضمان استمرار العلاقات بين الأفراد ضمن حدود المودة والمحبة؛ ذلك أن نسبةً كبيرةً لا بأس بها من الخلافات التي تنشب بين الأفراد تكون ناتجةً عن عدم التقيد بهذه الآداب في تعاملاتهم، فلو تقيّد الجميع بآداب عامة في حياتهم اليومية لأصبح الحال أفضل خاصة في ظل زمن السرعة الذي نعيش فيه، فحياة اليوم تتطلب منَّا ضبطَ النفس إلى درجة بعيدة جداً؛ تجنباً للصدامات اليومية التي تستنزف طاقتنا، وجهدنا، وتفكيرنا، وربما نفقِد عزيزًا إن تطور الأمر عن حدوده الطبيعية.

نعود لسنة النبي لنأخذ ثمرة من ثمرات التمسك بالآداب، ولنترك هذه المرة معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه – الذي شمَّتَ عاطسًا وهو في الصلاة – يقصُّ علينا ما حدث معه، قال: «بينا أنا أصلي مع رسول الله ، إذ عطسَ رجلٌ من القوم، فقلت: يرحمُك الله فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أُمَّيَاه، ما شأنكم تنظرون إلي؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت، فلما صلى رسول الله ، فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسنَ تعليمًا منه، فو الله، ما كَهرني ولا ضربني ولا شتمني، قال: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيءٌ من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن»

انظروا ماذا قال الصحابي عن رسول الله بعد هذا الموقف: ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه، فو الله، ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني».

أليس ما حدث مع هذا الصحابي ثمرةٌ من ثمرات التحلي بالآداب، وأليست أمثال هذه الأقاصيص مما ينبغي أن نشد عليها بكلتا يدينا؟ 

وهذا حديث آخر يرويه أبو هريرة، قال: «كان لرجل على رسول الله حقٌّ، فأغلظ له، فهمَّ به أصحاب رسول الله ، وقال لهم النبي : «إن لصاحب الحقِّ مقالاً، وقال لهم: اشتروا له سِنًّا فأعطُوه، فقالوا: إنا لا نجد إلا سِنًّا أفضل من سِنِّه، فقال: اشتروا له فأعطوه، وقال: إن من خيرِكم – أو خيرُكم – أحسنُكم قضاءً».

أيها الإخوة: إن الآداب تعمل وبشكل كبير جداً على مساعدة الفرد على تأدية واجباته ومعرفة ما له وما عليه؛ فالإنسان الذي يعرف حدوده وواجباته وحقوقه – كما يقولون – يُريحُ ويَستريح.

إذا كانت هذه أخلاق النبي فإن هذه الأخلاق هي محل القدوة والأسوة كيف لا والله تعالى يقول ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب 21] فالتخلق بأخلاق النبي وآدابه صورة من صور الاقتداء به فتحقيق الاقتداء برسول الله ثمرةٌ من ثمرات التحلي بالآداب لأنها تحقق معنى الأسوة، وتوصل إلى درجة محبة الله تعالى للعبد ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [آل عمران 31].

لهذا يقول الإمام النَّووي رحمه الله تعالى: «اعلم أنه ينبغي لمن بلغه شيءٌ من فضائل الأعمال أن يعمل به ولو مرَّةً واحدةً؛ ليكون من أهله، ولا ينبغي أن يتركه مطلقاً بل يأتي بما تيسر منه لحديث: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بَشيءٍ فأْتُوا مِنْهُ ما اسْتَطعْتُمْ”

لو رجعنا لقول الله عز وجل: ﴿ووصينا الإنسان بوالديه، حملته أمه وهناً على وهن﴾ [لقمان 14] لرأينا أن من ثمرات التحلي بالآداب؛ تحقيقُ الامتثال لأمر الله عز وجل؛ لأن برَّ الوالدين من مظاهر الأخلاق الإسلامية الموصولة بالقرآن والسنة، فالبر مَكرُمةٌ عظيمة ميزها اللّه تعالى بأن قرنها بعبادته مباشرة، فقال: ﴿وقضى ربك ألاّ تعبدوا إلاّ إياه وبالوالدين إحساناً﴾ [الإسراء 23]

 وقد سأل ابن مسعود النبيَّ : «أي العمل أحب إلى اللّه عز وجل؟ قال: الصلاة على وقتها، قال: ثم أي؟ قال: بر الوالدين»

أيها الإخوة: إن من ثمرات التحلي بالآداب بث روح المسؤولية في النفوس، ونعني بالمسؤولية أن الإنسان مسؤول عما يصدر عنه من قول أو فعل، مصداق قول النبي : «إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، لا يلقي لها بالا، يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله، لا يلقي لها بالا، يهوي بها في جهنم».

 يقول الحافظ ابن حجر في شرح لفظة «لا يلقي لها بالًا»: (لا يلقي لها بالًا: أي: لا يتأملها بخاطره، ولا يتفكر في عاقبتها، ولا يظنُّ أنَّها تؤثر شيئًا وهو من نحو قوله تعالى: ﴿وتحسبونه هينًا وهو عند الله عظيم﴾ [النور 15].

  فقبل أن تخرج الكلمة من فيك، أعط نفسَكَ فرصةً للتفكير في مآلاتها، وهل ما ستقوله يرضي الله أم يغضبه؟ هل تكون عاقبته خيرًا أم شرًّا؟ وطالما أنها لم تخرج من فيك فأنت مالكها، فإذا خرجت كنت أسيرها، وإذا كان هذا في الكلام ففي سائر التصرفات من باب أولى.

أيها الإخوة: هذا غيض من فيض من كثير الثمرات التي يحققها التمسك بالآداب والأخلاق..

نقف عند هذا الحد وإلى لقاء قادم بمشيئة الله تعالى نتمم الحديث فيه عن الأخلاق والآداب. 

اللهم اهدنا لمحاسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عنَّا سيء الأخلاق لا يصرف عنا سيئها إلا أنت. 

اللهم وفقنا لمحابك وألهمنا مراشد الصواب والهداية

وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين