سلسلة من أدبه قبل علمه | الموسم الثاني | ملامح من أدب النبي ﷺ مع ربه سبحانه وتعالى | المقالة الثانية | الشيخ أنس الموسى

ملامح أدب النبي ﷺ مع ربه سبحانه وتعالى

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيِّدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم إنا نستهديك لأرشد أمرنا وزدنا علمًا ينفعنا.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ولا تجعله علينا متشابهًا علينا فنتبع الهوى، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

وبعد: فهذا هو اللقاء الرابع عشر وما يزال اللقاء متجددًا في الحديث عن الأدب مع الله عز وجل وقد تحدثنا في اللقاء الماضي عن بعض ملامح أدب سيدنا محمد ﷺ مع ربه سبحانه واليوم بمشيئة الله تعالى سنتابع الحديث في نفس المحور فنكمل الحديث بذكر بعض ملامح أدب النبي ﷺ مع رب العزة والجلال.

أيها الأحبة: إن الباحث في نواحي الآداب المحمدية، لَيَبهرُه تعدُّدُ جوانبها، ويأخذ بقلبه سُموُّ مُقوماتها؛ فقد أرسله الله تعالى؛ ليَكشف للإنسانية الحائرةِ معالمَ التوحيد والعدل، ويَمحو الشِّرك والظلم، ويَنشر الأمان والمحبَّة، ويتمم مكارم الأخلاق، فبلَغ من ذلك حظًّا لم يدركه نبيٌّ قبله، وتَمَّ على يديه ما أراد الله أن تصل إليه الإنسانية من الكمال؛ فكان لذلك إمامَ الأنبياء وخاتمَ المرسلين، وبحسب الإنسان أن يذكر ذلك؛ ليُؤمنَ بأن هذا الرسول الأكرم كان منفردًا في عظَمة آدابه وأخلاقه.

أيها الأحبة: إن من أبرز نواحي العظمة المحمدية، ذلك الأدب العظيم مع الله تعالى الذي أرسَله بالهدى ودين الحق ليُظهره على الدين كله.

 ولعل من مظاهر أدب النبي ﷺ مع ربه سبحانه، كثرة ثنائه عليه في كل مناسبة ووقت فقد كان رسول الله ﷺ يذكر الله تعالى ويثني عليه في كل أحيانه، يحمده ويسبِّحه في البكور والآصال وفي كل حال فإذا بدأ بالأكل بدأه باسم الله، وإذا فرغ منه حمد الله، وإذا جلس مع أحد كان التذكير بالله من عمله في ذلك المجلس، وإذا نام نام وهو يذكر ربه، ويستعرض آلاءه عليه، وإليكم بعض صور ثناء النبي ﷺ على ربه سبحانه:

كان رسول الله ﷺ إِذَا رَأَى الْهِلالَ، قَالَ: ” اللهُمَّ أَهِلَّهُ عَلَيْنَا بِالْيُمْنِ وَالْإِيمَانِ، وَالسَّلامَةِ وَالْإِسْلامِ، رَبِّي وَرَبُّكَ اللهُ.” (مسند أحمد 3/17 ح 1397).

وكان صلى الله عليه وسلم في أسفاره إذا علا صُعُداً كبَّر، وإذا نزل وادياً سبَّح، وذلك أن العالي على الشيء قد يتعاظم في نفسه، فيرى أنَّه كبير، فكان من المناسب أن يكبِّر اللهَ عز وجل، فيقول: الله أكبر، وأما إذا نزل فالنزول سُفول فناسب أن يسبِّح الله عز وجل عند السفول؛ كما حدث بذلك جابر بن عبد الله رضي الله عنهما «كُنَّا إِذَا صَعِدْنَا كَبَّرْنَا، وَإِذَا نَزَلْنَا سَبَّحْنَا». (صحيح البخاري: باب التسبيح إذا هبط واديًا 4/ 57 ح 2993)

وكان رسول الله ﷺ إذا أَخَذَ مَضْجَعَهُ مِنَ اللَّيْلِ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى تَحْتَ خَدِّهِ الْأَيْمَنِ  ثُمَّ يَقُولُ: ” اللهُمَّ بِاسْمِكَ أَحْيَا، وَبِاسْمِكَ أَمُوتُ “، فَإِذَا اسْتَيْقَظَ مِنَ اللَّيْلِ قَالَ: ” الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانِي بَعْدَمَا أَمَاتَنِي وَإِلَيْهِ النُّشُورُ.” (مسند أحمد 38/323 ح 23286).

وعلَّم رسول الله ﷺ من يستيقظ من الليل ماذا يقول؟ فقال: ” مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ، فَقَالَ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الحَمْدُ لِلَّهِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَلاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، أَوْ دَعَا، اسْتُجِيبَ لَهُ، فَإِنْ تَوَضَّأَ وَصَلَّى قُبِلَتْ صَلاَتُهُ.” (صحيح البخاري: بَابُ فَضْلِ مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى 2/54 ح 1154)

وكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اسْتَجَدَّ ثَوْبًا سَمَّاهُ بِاسْمِهِ قَمِيصٌ – أَوْ عِمَامَةٌ – ثُمَّ يَقُولُ: ” اللهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ كَسَوْتَنِيهِ، أَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِهِ وَخَيْرِ مَا صُنِعَ لَهُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهِ وَشَرِّ مَا صُنِعَ لَهُ. (مسند أحمد 17/348 ح 11248)

وهكذا كان حاله ﷺ في بقية شؤونه في الثناء على الله تعالى، فإذا ذاق ذواقًا يثني على ربه أن أطعمه وسقاه من غير حول منه ولا قوة، وإذا خرج من الخلاء يحمد ربه أن أذهب عنه الأذى وعافاه.

وحتى في حال المصيبة يتأدب مع الله تعالى ويثني عليه؛ إعلانا برضاه عنه، فلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَانْكَفَأَ الْمُشْرِكُونَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه: ” اسْتَوُوا حَتَّى أُثْنِيَ عَلَى رَبِّي، فَصَارُوا خَلْفَهُ صُفُوفًا، فَقَالَ: ” اللهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ، اللهُمَّ لَا قَابِضَ لِمَا بَسَطْتَ، وَلَا بَاسِطَ لِمَا قَبَضْتَ، وَلَا هَادِيَ لِمَا أَضْلَلْتَ، وَلَا مُضِلَّ لِمَنْ هَدَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُقَرِّبَ لِمَا بَاعَدْتَ، وَلَا مُبَاعِدَ لِمَا قَرَّبْتَ، اللهُمَّ ابْسُطْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِكَ وَرَحْمَتِكَ وَفَضْلِكَ وَرِزْقِكَ، اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ النَّعِيمَ الْمُقِيمَ الَّذِي لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ، اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ النَّعِيمَ يَوْمَ الْعَيْلَةِ وَالْأَمْنَ يَوْمَ الْخَوْفِ، اللهُمَّ إِنِّي عَائِذٌ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا أَعْطَيْتَنَا وَشَرِّ مَا مَنَعْتَ، اللهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا، وَكَرِّهْ إِلَيْنَا الْكُفْرَ، وَالْفُسُوقَ، وَالْعِصْيَانَ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ، اللهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، وَأَحْيِنَا مُسْلِمِينَ، وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ غَيْرَ خَزَايَا وَلَا مَفْتُونِينَ، اللهُمَّ قَاتِلِ الْكَفَرَةَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ رُسُلَكَ، وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِكَ، وَاجْعَلْ عَلَيْهِمْ رِجْزَكَ وَعَذَابَكَ، اللهُمَّ قَاتِلِ الْكَفَرَةَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَهَ الْحَقِّ ” (مسند أحمد (24/264) ح (15492)… وغيرُ ذلك من صنوف التحميد والتمجيد لرب العزة والجلال كثير كثير.

حتى الصلاة أيها الأحبة أليست مظهرًا من مظاهر الثناء على رب العزة تبارك وتعالى ومظهرًا من مظاهر الأدب معه؟ أليست ألفاظ التشهد في الصلاة التي علَّمناها رسولُ الله ﷺ ملمحٌ من ملامح الأدب مع الله تعالى؟

ولننتقل لمظهر آخر من مظاهر أدب النبي والذي تجلى في عبادته ﷺ لربه حين كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه وهو الذي غُفر له ما تقدم وما تأخر من ذنبه.

 ولَرُبَّ سائلٍ يسأل فيقول: بعد أن أجزَل الله تعالى لنبينا ﷺ العطاء، حتى غفَر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، وبعد أن نصَره نصرًا عزيزًا، وفتَح له فتحًا مبينًا فلِمَ لا يُسَلِّم ﷺ نفسه إلى شيءٍ من الدَّعة، ويَخلد إلى قليلٍ من الراحة؟ بل نراه يَغرق في العبادة أكثر، ويُكثرُ من الخَلوة، ويُبالغ في التهجُّد، فيَعجب من هذا أصحابه فيسألونه عن السر فيه؟ كما ورد عن السيدة عائشة رضي الله عنها أنها قالت: إن النبي ﷺ كان يقوم من الليل حتى تَتفطَّر قدماه، فقلت له: لِم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفَر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر؟! فقال: ” أفلا أحبُّ أن أكون عبدًا شكورًا؟” (سنن ابن ماجه: باب ما جاء في طول القيام في الصلوات 1/456 ح 1419؛ سنن الترمذي: باب 1/534 ح 412)

 لقد كان ﷺ يواظب على قيام الليل والتبتُّل، مواظَبَةً أفرَغت في قلوب المسلمين إيمانًا به وحبًّا له، وتفانيًا في نُصرته، وتحققًا من صِدق قوله، وفي ذلك يقول ابن رَواحة:

وفينا رسولُ الله يَتلو كتابَهُ   إذا انشقَّ معروفٌ من الفجْر ساطعُ

أرانا الهُدى بعد العَمى فقلوبُنا   به مؤمناتٌ أنَّ ما قال واقعُ

يَبيتُ يُجافي جَنْبَه عن فراشِهِ   إذا استَثْقَلت بالمشركين المَضاجعُ

وكان من أعظم أدب الرسول مع ربِّه، أنه كان أحب ألقابه إلى نفسه أنه عبد الله، وكان يحب دائمًا أن يثبت ذلك في نفوس المسلمين جليًّا واضحًا، فتارة يُقرِّره بالقول؛ كما ورد عنه أنه قال: ” لا تُطروني كما أطْرَت النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد الله ورسوله، فقولوا: عبد الله ورسوله.” (صحيح البخاري: بَابُ قَوْلِ اللَّهِ {وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا} [مريم: 16] 4/167 ح 3445، مسند أحمد 1/259 ح 154)

وتارة يقرِّره تقريرًا عمليًّا؛ فقد ورد عنه أنه دخل على أصحابه وهو متوكئٌ على عصا، فقاموا إجلالاً له، فقال لهم: “لَا تَقُومُوا كَمَا تَقُومُ الْأَعَاجِمُ يُعَظِّمُ بَعْضُهَا بَعْضًا” مسند أحمد (36/515 ح 22181)

بل إن أدب النبي ﷺ مع ربه سبحانه دفعه لأن ينهى أصحابه عن إطرائه لأنه لا يرى نفسه أكثر من كونه عبدًا لرب العزة والجلال فقال: ” لاَ تُطْرُونِي، كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ، فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ، وَرَسُولُهُ». (صحيح البخاري: بَابُ قَوْلِ اللَّهِ {وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا} [مريم: 16] 4/167 ح 3445)

أيها الأحبة: أنْ يرضى رسول الله ﷺ أن يكون عبدًا نبيًا، عن أن يكون ملِكًا نبيًا لهو قمَّة الأدب والتواضع مع رب العزة والجلال.

 يروي عَطَاء أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ اتَّخَذَ عَسِيبًا مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ، يُسَكِّتُ بِهِ النَّاسَ، وَيُشِيرُ بِهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: «يَا مُحَمَّدُ، لِمَ تَكْسِرُ قُرُونَ رَعِيَّتِكَ؟» فَأَلْقَاهُ، فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ، فَقَالَ مِيكَائِيلُ: إِنَّ رَبَّكَ يُخَيِّرُكَ أَنْ تَكُونَ مَلِكًا نَبِيًّا، أَوْ نَبِيًّا عَبْدًا، فَنَظَرَ إِلَى جِبْرِيلَ، فَأَشَارَ بِيَدِهِ أَنْ تَوَاضَعْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَلْ نَبِيٌّ عَبْدٌ» فَقَالَ جِبْرِيلُ: فَإِنَّكَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ، وَإِنَّكَ أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ، وَأَوَّلُ مَنْ يَشْفَعُ.” (مصنف عبد الرزاق: بَابُ اعْتِمَادِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْعَصَا 3/183 ح 5246)

ويؤكد معنى أدب العبودية الذي كان يتحلى به رسول الله ﷺ أن رجلاً كلَّمه فجعلُ ترعُد فرائصُه، فقال له: «هون عليك، فإني لست بملِك، إنما أنا ابن امرأة تأكل القديدٌ». (سنن ابن ماجه: باب القديد 2/1101 ح 3312)

إن أدب التواضع من النبي ﷺ إنما هو في حقيقته فرع عن مراقبة الله عز وجل والأدبِ معه، فكان ﷺ يشعر أن فضائله قَبَسٌ من فضل الله عليه فهو يرى نفسه صفرًا بدون الله عز وجل.

أيها الأحبة: يكاد الأدبُ يكونُ عنوانُ الإيمان وعلامتُه، فعلامة المؤمن أنه أديب، فنبينا محمد ﷺ  أديب مع الله تعالى بل هذا وسم أنبياء الله جميعًا – كما أسلفت – ومن مظاهر أدب أنبياء الله تعالى مع ربهم أن الله صان قلوبهم ومعاملاتهم  وعباداتهم لربهم أن تشوبها شائبة أو يعتريها نقص؛ فقد صانوا قلوبهم أن تتوجه أو تميل لغير الحي القيوم الذي بيده مقاليد كل شيء فمن تمام الأدب مع الله، أن تصون قلبك عما سواه؛ فالقلب يمتلئ بشيء واحد وهو حب الله وتعظيمه فإذا خالطت بشاشة القلبِ حبُّ الدنيا لم يبق مكانٌ لمحبة الله تعالى، وإذا امتلأ القلب بحبِّ الله وتعظيمه خرجت الدنيا منه ، لهذا فأنبياء الله تعالى صانوا قلوبهم عن أن تلتفت إلى غيره سبحانه وهذا من تمام الأدب مع الله سبحانه ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ﴾ [الأحزاب 4].

ومن صور أدب المصطفى مع رب العزة جل جلاله أنه كان أشدَّ عباد الله خشيةً لربه، وأعظمَهم رجاءً فيه، وأكثرَهم حبًّا له، وكانت أحبَّ الأوقات إليه، تلك الساعات التي يعتزل فيها الناس؛ ليَأْنَس بمناجاة خالق الكون، ومُبدِع الوجود.

كان ﷺ قبل أن يُبعث يَمكُث في غار حِراء الليالي ذوات العدد، مستغرقًا في عبادة خالقه، ويَملأ جوانب نفسه بالضراعة إليه، ولَما جاءَه الحق واختارَه ربُّه رسولاً إلى الناس كافة، كان أعظمَ ما تَسعد به نفسُه، تلك الساعاتِ الطويلةَ التي يَقضيها في التهجُّد راكعًا ساجدًا قانتًا لله؛ يُسبِّح بحمده، ويَذكر آلاءَه، ويُلِح عليه في الرجاء، ذاكرًا أنه قيُّوم السموات والأرض ومَن فيهنَّ، ونور السموات والأرض ومن فيهنَّ، وأنه الحق، ووَعْده الحق، ولقاؤه حق، وقوله حقٌّ.

وبعد أن فُرِضت الصلاة، كان يأنَس بها أُنس الرضيع إلى صدر أمه، ويَشتاق إلى وقتها شوقَ الظمآن إلى الماء، ففيها سَلوته، وفيها مَسرَّته كيف لا وهو الذي قال: “وجُعِلت قرَّة عيني في الصلاة”.

أيها الأحبة: لم يمتدح ربنا سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم بوصفه قائدًا مع أنه كان قائدًا مبرَّزًا، كما لم يمتدحه بوصفه سياسيًا مع أن كان سياسيًا محنكًا من الطراز الأول، كما أن الحق سبحانه لم يمتدح فيه كونه خطيبًا مِصْقَعًا، كما لم يمتدح ذكائه مع أنه ﷺ كان فطينًا من الدرجة الأولى كما لم يمتدح شجاعته …لكنه امتدحه بأبرز خصاله وأكمل صفاته فقال فيه: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾.

أيها الإخوة: لقد بلَغ من أدب النبي ﷺ مع ربه، أنه كان يظَلُّ صائمًا طاويًا، مواصلاً الصيام، سعيدًا بالجوع والعطش؛ لأن فيه قربًا من العلي الأعلى؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: نهى رسول الله ﷺ عن الوصال في الصوم، فقال له رجل من المسلمين: إنك تواصل يا رسول الله؟ قال: “إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ إِنِّي يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِ.” (صحيح البخاري: باب الوصال ومن قال ليس في الليل صيام 3/37 ح 1964)

فأي طعام كان يطعمه ربُّه وأيُّ شراب كان يسقيه؟

ومن صور أدب المصطفى مع رب العزة أن كان يرشد أصحابه إلى الطريق الصحيح في الأدب مع الله ففاقد الشيء لا يعطيه وحصل ذلك حين اختلط الأمر على بعض أصحابه، فظنُّوا أن من الأدب مع الباري عز وجل أن يَنقطع الإنسان إلى العبادة، وأن يترك الدنيا إلى الآخرة، ولكنه ﷺ ردَّهم إلى الصواب، وبيَّن لهم – في جَلاءٍ لا يَقبل التأويلَ – أن خشية الله لا تَستلزم الانقطاع عن الدنيا.

ولنترك أنس بن مالك رضي الله عنه يقص علينا قصة النفر الثلاثة، قال: جاء ثلاثة رَهْطٍ إلى بيوت أزواج النبي ﷺ يسألون عن عبادته، فلما أُخبروا، كأنهم تَقالُّوها، فقالوا: أين نحن من النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد غفَر الله ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر؟! فقال أحدهم: أما أنا، فإني أصلي الليل أبدًا، وقال آخر: وأنا أصوم الدهر ولا أُفطر، وقال آخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوَّج، فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: ” أنتم الذين قلتُم كذا وكذا؟ أما والله إني لأَخشاكم لله وأتْقاكم له؛ لكني أصوم وأُفطر، وأُصلي وأرقُد، وأتزوَّج النساء، فمن رغِب عن سُنتي، فليس مني.” (صحيح البخاري: باب الترغيب في النكاح 7/2 ح 5063)

أيها الأحبة: هكذا كان أدبه ﷺ مع ربِّه أثرًا من آثار خشيته له، وفَرْط حبِّه لذاته، وخضوعه لجلاله، فكان خاليًا عن المغالاة والتكلُّف.

وأخيرًا وليس آخرًا هذا رسول الله ﷺ وتلك بعض مظاهر أدبه مع رب العزة والجلال نقف عند هذا الحد على أن نكمل الحديث في اللقاء القادم فإلى ذلك اليوم.

 

اللهم اهدنا لمحاسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عنا سيء الأخلاق لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.

اللهم وفقنا لمحابك وألهمنا مراشد الصواب والهداية.

وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.