سلسلة من أدبه قبل علمه | الأدب مع الله عز وجل (1) | المقالة الثامنة | الشيخ أنس الموسى

 

      • أدب الأنبياء مع الله تعالى ج1

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيِّدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم إنا نستهديك لأرشد أمرنا وزدنا علمًا ينفعنا. 

وبعد: ما يزال اللقاء متجددًا في الحديث عن الآداب والأخلاق، وهذا هو اللقاء الثامن في سلسلة من أدبه قبل علمه، وسبق وتحدثنا عن أهمية الأدب، وعلاقة الأدب بالأخلاق، وذكرنا الأدب في الكتاب والسنة، وأخيرًا تحدثنا عن ثمرة الأدب في حياة المسلم.

 واليوم بمشيئة الله عز وجل سنبدأ بإفراد الحديث عن الآداب أدبًا أدبًا. 

 أيها الإخوة: من خصال المسلم، أن يلزم الطريقة المرضية فيمن يتعامل معه، والمسلم له أدب مع ربه، وأدب مع أنبيائه ، وأدب مع الناس، وأدب مع نفسه.

ولعل أثمنَ بل وخيرَ ما نبدأ به، الحديثُ عن الأدب مع الله عز وجل؛ فذروة الأدب هي الأدب مع الله جل شأنه، وأحسن الأدب أدب العبد مع ربه، أدب المخلوق مع خالقه، أدبُ المُحْدَث الفانِي مع الأزليِّ الباقي، وخصوصًا ما سجَّله القرآن لرسل الله تعالى وأنبيائه وأوليائه، إذا سألوا الله تعالى أو خاطبوه، أو تعبدوا له.

أيها الإخوة: لقد أخذت آداب الأنبياء مع الله عز وجل أشكالًا مختلفة ولقد وصف ربنا سبحانه وتعالى خُلُق رسوله فقال: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾.

وهذا سيدنا آدم عليه السلام وزوجه بعد أن ذاقا الشجرة التي نهاهما ربهما عن ذواقها: ﴿قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الأعراف 23] فاعترف بذنبه وندم عليه، وسأل ربه المغفرة، وهذا قمة الأدب، ولم يقل: ربِّ إنما فعلتُه لأنك قضيت عليَّ به وقدَّرت وكتبت؛ فيحتج بالقدر على المعصية كما يفعل كثير من الجهال؛ يحتج بالقدر للتفلُّت من العقاب.

وكذلك إبراهيم الخليل عليه السلام قال: ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ﴾ ﴿وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ﴾ ﴿وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ [الشعراء 89- 90] ولم يقل «وإذا أمرضني» مع أن الله تعالى على الحقيقة هو الذي قدَّر عليه المرض وهو الذي أمرضه ولكن لم يقل ذلك؛ حفظًا للأدب مع الله عز وجل في نسبة الشر إليه سبحانه فنسب إليه الشفاء ولم ينسب له المرض، كما أنه جعل المرض عرضًا طارئًا، فعلَّقه على الشرط فقال: ﴿وإِذَا مَرِضْتُ﴾ ولم يجعله أمرًا ثابتًا متجددًا كما جعله في الإطعام والسقاية.

وهذه مناجاة سيدنا موسى عليه السّلام لربه سبحانه في غربته في أرض مدين، التي رحل إليها من مصر ماشيًا على قدميه، في قصة ابنتي شعيب اللاتي ساعدهن في السقيا مروءةً منه، ثم أَوَى إلى الظل: ﴿فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ [القصص 24]، ولم يقل «رب أطعمني»، فربه ليس بغافل عن حاجته حتى ينبهه عليها، وليس بناس حتى يحتاجَ لمن يذكره بها، فأظهر فاقته وفقره لربه وهذا أفضل ما يفعله العبد عند الحاجة فكانت نتيجة هذه الفاقة فرصة عمل وزوجة صالحة.

وهكذا كان حال سيدنا أيوب عليه السلام – الذي ابتُلِيَ بالمرض وطال عليه – يرفع حاجته لربه دون طلب: ﴿وأيوبَ إذ نادى ربَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [الأنبياء 83] فذكر حاجته بإظهار ضعفه، فالله العليم به البصير بحاله، وهذه قمة العبودية والأدب مع الله عز وجل، كقول القائل: علمُه بحالي، يغني عن صريح سؤالي، فالله ينفذ أحكامَه ويفعل ما يشاء ولا مُعقِّبَ لحُكْمِه.

ويقص ربنا سبحانه وتعالى في سورة الكهف الحوار الذي دار بين سيدنا موسى والخضر عليهما السلام، حيث يقول الخضر عليه السّلام في السّفينة ﴿فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها﴾ [الكهف 97] ولم يقل «فأراد ربّك أن أعيبها» مع أن الله سبحانه أمره بهذا بوحي من عنده فمن الأدب مع الحق سبحانه ألا تُنسبَ إليه القبائح. وأما في حق حفظ مال الغلامين فقال الخضر عليه السلام: ﴿فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما﴾ [الكهف 82] فنسب الخير لربه سبحانه.

   وهذا سيدنا عيسى عليه السلام يخاطبه ربه سبحانه وتعالى فيقول له: ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [المائدة 116]

ولننظر إلى جواب سيدنا عيسى عليه السلام وهو يفيض أدبًا مع خالقه سبحانه وتعالى: ﴿قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾ ﴿مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [المائدة 116- 117].

لننظر إلى هذا الجزء من جواب سيدنا عيسى عليه السلام: ﴿إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ﴾ فلم يقل: «لم أقله». والأدب واضح في الفرق بين الجوابين، ثمّ أحال الأمر إلى علم الله سبحانه وتعالى فقال: ﴿تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي﴾، ثمّ ما لبث أن برّأ نفسه عن علمه بغيب ربّه وما يختصّ به سبحانه وتعالى فهو الغيب المطلق، فقال: ﴿وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ﴾، ثمّ أثنى على ربّه سبحانه، ووصفه بتفرّده بعلوم الغيوب كلّها، فقال: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾، ثمّ نفى أن يكون قال لهم غير ما أمره ربّه به – وهو محض التّوحيد- فقال:﴿ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ﴾، ثمّ أخبر عن شهادته عليهم، مدّة مُقامه فيهم؛ وأنّه لا اطّلاع له عليهم وأنّ الله عزّ وجلّ وحده هو المنفرد – بعد أن رفعه الله إليه – بالاطّلاع عليهم، فقال: ﴿وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ﴾، ثمّ وصفه بأنّ شهادته سبحانه فوق كلّ شهادة وأعم، فقال: ﴿وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾، ثمّ قال: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ﴾ وهذا من أبلغ الأدب مع الله تعالى في مثل هذا المقام، أي: هم عبادك، وأنت أعلم بسرّهم وعلانيتهم، فإذا عذّبتهم: عذّبتهم على علم منك بما تعذّبهم عليه، فهم عبادك وأنت أعلم بما اقترفوه وما اكتسبوه. وهذا إقرار واعتراف وثناء عليه سبحانه وتعالى بحكمته وعدله، وكمال علمه بحالهم، واستحقاقهم للعذاب. ثمّ قال: ﴿وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ ولم يقل: «الغفور الرّحيم» وهذا من أبلغ الأدب مع الله تعالى، فإنّ سيدنا عيسى قال ذلك في وقت غضب الجبار عليهم، والأمرِ بهم إلى النّار، فليس هو مقام استعطافٍ ولا شفاعة، بل مقام براءة منهم، فلو قال «فإنّك أنت الغفور الرّحيم» لأشعر باستعطافه ربَّه على أعدائه الذين قد اشتدّ غضبُه عليهم، فالمقام مقام موافقة للرّبّ في غضبه على من غضب عليهم، فعدل عن ذكر الصّفتين اللّتين يُسألُ بهما عطفُه ورحمتُه ومغفرته إلى ذكر العزّة والحكمة، المتضمّنتين لكمال القدرة وكمال العلم.

والمعنى: إن غفرت لهم فمغفرتك هي من كمال قدرتك وعلمك، وليست عن عجزك عن الانتقام منهم، ولا عن خفاء عليهم بمقدار جرائمهم؛ وهذا لأنّ العبد قد يغفِر لغيره لعجزه عن الانتقام منه، ولجهله مقدار إساءته إليه، والكمال هو مغفرة القادر العالم، وهو العزيز الحكيم، فكان ذكر هاتين الصّفتين في هذا المقام عين الأدب في الخطاب.

ومن أمثلة الأدب العالي للأنبياء عليهم السلام مع ربهم سبحانه وتعالى: قولُ ذي النون، حين التقمه الحوت، فنادى في الظلمات: ظلمةُ البحر، وظلمةُ الليل، وظلمةُ بطن الحوت: ﴿أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنبياء 87]، فاكتفى بإثبات ثلاث حقائق: أقر لله تعالى بكمال الألوهية، ونزه ربه عن كل نقص وعيب وآفة، واعترف بالظلم لنفسه، ولم يسأل النجاة مما هو فيه، أدبًا مع ربه سبحانه، ومع ذلك استجاب الله تعالى له، وإن لم يسأل بلسانه، لكنه على الحقيقة سأل بلسان حاله وفاقته ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنبياء 88].

 قال رسول الله : «دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت: ﴿لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين﴾ [الأنبياء 87] فإنه لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له».

وهناك من قال بأن هذا هو اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى. 

وأختم بأدب النبي محمد مع ربه سبحانه وتعالى، ‮‬وذلك حين عُرج برسول الله إلى منتهى العروج في‮ ‬مراتب الكرامة، ‮فوق السماء السابعة ‮عند سدرة المنتهى ‮‬عندها جنة المأوى، ‮حين رأى من آيات ربه ما رأى، ‮ ‬ففي‮ ‬هذا المقام‮ ‬يخبر عنه سبحانه وتعالى فيقول: ﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى‮﴾، ‮وهو وصف لأدبه ؛ إذ ‬لم‮ ‬يلتفت جانباً، ‬ولم‮ ‬يصرف بصره‮ ‬يمنةً ولا‮ ‬يسرة، ‮‬وما مال بصره إلى مرأى آخر، ‮ولا تجاوز ما‮ ‬يرى، ‮وهذا كمال الأدب‮.‬

وكان ‬يقوم من الليل حتى تتورم قدماه، وهذه السيدة عائشة تخبرنا بحاله فتقول: «كان رسول الله ﷺ، إذا صلى قام حتى تَفطَّرَ رجلاه، قالت عائشة: يا رسول الله أتصنع هذا وقد غُفِرَ لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال: “يا عائشة أفلا أكون عبدا شكوراً». ‮فهما مقامان‮: ‬عبودية مخلَصة، ‮‬وشكر لا‮ ‬ينقطع‮.‬

وأخيرًا: إن الأدب مع الله عز وجل هو جوهر العبودية، ‮‬وهو خلق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وما ذكرناه هو جزء مما قصّه علينا القرآن من أمثلة أدب الأنبياء مع ربهم سبحانه وتعالى. 

نقف عند هذا الحد وإلى لقاء قادم بمشيئة الله تعالى نتمم الحديث فيه عن الأخلاق والآداب. 

اللهم اهدنا لمحاسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عنَّا سيء الأخلاق لا يصرف عنا سيئها إلا أنت. 

اللهم وفقنا لمحابِّك وألهمنا مراشد الصواب والهداية.

وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.