سلسلة من أدبه قبل علمه | الأدب مع الله عز وجل (3) | المقالة العاشرة | الشيخ أنس الموسى

 

        •  أدبُ الناس مع مَلِكِ الناسِ سبحانه وتعالى (2)

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيِّدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم إنا نستهديك لأرشد أمرنا وزدنا علمًا ينفعنا. 

وبعد: فهذا هو اللقاء العاشر ومازال الحديث عن الآداب متجددًا، وقد تحدثنا في اللقاء الماضي عن أدب العباد من غير الأنبياء عليهم السلام مع ربهم سبحانه وتعالى حيث ذكرنا عددًا من مقامات وأحوال الأدب مع الله تعالى، واليوم بمشيئة الله عز وجل سنكمل الحديث في نفس الموضوع.

أيها الإخوة:

  • من مقامات الأدب مع الله تعالى: أن ينظر المسلم إلى الله تعالى وقد قَدِرَ عليه وأخذ بناصيته، وأنه لا مفرَّ له ولا مهربَ ولا منجى ولا ملجأ منه إلا إليه، فيفر إليه تعالى، وينطرح بين يديه، ويفوض أمره إليه، ويتوكل عليه، فيكون هذا أدبًا منه مع ربه وخالقه؛ إذ ليس من الأدب في شيء الفرار ممن لا مفرّ منه، ولا الاعتماد على من لا قدرة له، ولا الاتكال على من لا حول ولا قوة له، قال تعالى: ﴿مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا﴾ [هود:56]، وقال سبحانه: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [الذاريات:50].
  • ومن مقامات الأدب مع الله تعالى: أن ينظر المسلم إلى ألطاف الله تعالى به في جميع أموره، وإلى رحمته له ولسائر خلقه، فيطمع في المزيد من ذلك، فيتضرع له بخالص الضراعة والدعاء، ويتوسل إليه بطيِّب القول وصالح العمل، فيكون هذا أدبًا منه مع ربه ومولاه؛ إذ ليس من الأدب في شيءٍ اليأسُ من المزيد مِمَّن رحمتُه وسعت كل شيء، ولا القنوطُ مِن إحسان مَن عمَّ إحسانُه وألطافه الوجود والبرايا، وهو الذي قال عن نفسه: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الأعراف:156]، وقال أيضًا: ﴿اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ﴾ [الشورى:19]، فحين تتابع الكوارث والنكبات، وتتفاقم الأزمات والمشكلات، وتزداد الأخطار والمخاوف، فلا ملجأ إلا إلى الله تعالى، ولا مفزِع إلاَّ إليه فهو اللطيف بعباده فمن أسماءه اللطيف، ومن صفاته لطفُه بعباده، ومعنى لطفُهُ سبحانه وتعالى بعباده أن يوصِل لهم المصالح وهم لا يشعرون ولا يتوقعون.

رحم الله تعالى ابن عطاء الله السكندري إذ يقول في حكمه: مَن ظنَّ انفكاك لُطفه عن قدَره فذلك لقصور نظره”. صدق رحمه الله فما نزل القدر إلا سبقه اللُّطف وصحبه. 

ولعل من مظاهر لطف الله تعالى بعباده والتي تدعو العبد لإحسان الأدب مع خالقه تظهر جليةً واضحةً في قصة يوسف عليه السلام ، فإنه لما أُلقي في الجبِّ – وهو مظنة الهلكة – ثم بِيعَ عبدًا وهذا مظنَّةٌ لاستمراره في العبودية، وقضاءٌ لعمره خادمًا عند من اشتروه، ثم اتهم بامرأة العزيز فسُجن، وهذا مظنة البقاء في السجن إلى الموت؛ لقوة سطوة العزيز وتمكنه، ولو نجا يوسف من بعضها لم ينج من جميعها؛ فجُبٌّ ثم رِقٌّ ثم سِجنٌ، ولكن ألطاف الله عز وجل على خلاف حسابات البشر؛ إذ جَعل ابتلاءات يوسف عليه السلام هي السلَّم الذي يوصِلُهُ للمجد والعلياء والتمكين في الأرض؛ إذ برميه في الجُبِّ نقلته القافلة من مكانه في الصحراء إلى المدينة التي بها قصر الملك، وبيعُه رقيقاً أوصله إلى بيت العزيز، وفتنة امرأة العزيز به أوصلته إلى السجن، وهو العتبة الأخيرة ليصل إلى الملِكِ عن طريق تعبير رؤياه بعد أن عبَّر للسجينين رؤياهما، ومن خلال هذه السلسلة من الامتحانات والابتلاءات التي يكتنفها لطف الله تعالى ويحيط بها من كل جانب، بلغَ يوسفُ عليه السلام المنزلة، وجُعل على خزائن الأرض، وجيء بأبويه وإخوته إليه، وبعد أن استعرض يوسف لأبيه ما جرى عليه خُتم ذلك بما أخبر الله تعالى عنه أنه قال: ﴿إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ [يوسف: 100] فجعل سبحانه ابتلاءات يوسفَ ممهداتٍ لرفعة منزلته، وعلوِ مكانته، وذلك بلطفه سبحانه به بحيث لم يشعر يوسف بذلك، ولا شعر به إخوته الذين مكروا به.

  • ومن مقامات الأدب مع الله تعالى: أن ينظر العبد إلى شدّة بطش ربه وقوة انتقامه، وسرعة حسابه؛ فيتقيه بطاعته، ويتوقاه بعدم معصيته، فيكون هذا أدبًا منه مع ربه؛ إذ ليس من الأدب عند الألبَّاء أن يتعرض العبد الضعيف العاجز لمعصية الرب العزيز القادر القوي القاهر، وهو الذي يقول: ﴿وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ﴾ [الرعد:11]، ويقول: ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾ [البروج:12].

  • ومن مقامات الأدب مع الباري سبحانه: أن يشكر المسلم ربَّه على نعمائه، وأن يستحي منه عند الميل إلى معصيته، وأن يَصْدُق في الإنابة إليه، والتوكلِ عليه رجاءَ رحمته، والخوفَ من نِقمته، وأن يُحسن الظن به في إنجاز وعده، وإنفاذ وعيده فيمن يشاء من عباده، وبقدر تمسك العبد بهذه المعاني ومحافظته عليها تعلو درجته ويرتفع مقامه وتسمو مكانته وتعظُمُ كرامته، فيصبح من أهل ولايته ورعايته، ومحطِّ رحمته ومَنْزِلَ نعمته، وهل هناك مزيدٌ على هذا مما يطلبه العبدُ ويتمنَّاه؟

  • من أحوال الأدب مع الله تعالى التحقق بمقام الصيانة؛ وهو أن يصون معاملتَه أن تُشاب برياء، وقلبَه أن يلتفت إلى غيره سبحانه، وأن يصون إرادته أن تتعلق بما يمقته عليها خالقه ومولاه.

  • ومن نماذج الأدب مع الخالق سبحانه وتعالى: قول العبد عند إخباره عن أمر ينوي فعله مستقبلًا: إن شاء الله؛ عملاً بقوله تعالى: ﴿وَلا تَقُولَنَّ لِشَيءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [الكهف: 23 – 24]؛ لما في ذلك من المحذور وهو الكلام على الغيوب المستقبَلية، التي لا يدري العبد هل يفعلها أم لا؟ وهذا من سوء الأدب مع الله تعالى، مع ما فيه من ردُّ الفعل إلى مشيئة العبد ابتداءً، وذلك قمةٌ في سوء الأدب مع الله تعالى؛ لأن المشيئة كلها لله تعالى، ومشيئته سبحانه نافذة مطلَقة، ومشيئة العبد تحت مشيئة الله، ولن تنفذ مشيئة العبد إلاّ بمشـيئة الله قـال تعالى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبٌّ العَالَمِينَ﴾ [التكوير: 29].

 ولا ننسى أن إحالة الأمر لمشيئة الله تعالى فيها من تيسير الأمور وحصول البركة ما فيها.

ومن أمثلة الأدب مع الله تعالى في الاستثناء أقوالُ أنبيائِه وعبادِهِ الصالحين، قول إسماعيل عليه السلام لأبيه عندما عرض عليه أمر ذبحه: ﴿يَا أَبَتِ افعَل مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِي إن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ [الصافات: 102] فلم ينسب لنفسه مشيئة؛ وهذا وفقه للصبر لمراد الله فيه.

ومن أمثلة الأدب في الاستـثناء قـول موسى عليه السلام للخضر عليه السلام: ﴿قَالَ سَتَجِدُنِي إن شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعصِي لَكَ أَمرًا﴾ [الكهف: 69] 

ومن أمثلة الأدب مع الله في الاستثناء أيضاً قــول يـوسف عليه السلام: ﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إلَيهِ أَبَوَيهِ وَقَالَ ادخُلُوا مِصرَ إن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ﴾ [يوسف: 99].

يقول الإمام الشوكاني رحمه الله تعالى: إذا نسيت الاستثناء فقل: إن شاء الله سواءً كانت المدة قليلةً أو كثيرة.

يروي أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قولَه: «قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ بِمِائَةِ امْرَأَةٍ، تَلِدُ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ غُلَامًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ، قَالَ: وَنَسِيَ أَنْ يَقُولَ: إِنْ شَاءَ اللهُ، فَأَطَافَ بِهِنَّ، قَالَ: فَلَمْ تَلِدْ مِنْهُنَّ امْرَأَةٌ إِلَّا وَاحِدَةٌ نِصْفَ إِنْسَانٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللهُ، لَمْ يَحْنَثْ، وَكَانَ دَرَكًا لِحَاجَتِهِ».

فالأدب مع الله تعالى ممن عزم أن يفعل أمراً مستقبلاً أن يقول: إن شاء الله، قبل أن يُقدِم عليه، تأدباً مع الله تعالى، وامتثالاً لأمره، واقتداء بأنبيائه وعباده الصالحين.

 

  • من الأدب مع الله تعالى: أن تسأل حاجتك منه سبحانه وأن تعتقد بقلبك أنه لن يقضيها لك سواه، فلو كنت مريضًا وذهبت للطبيب ليداويك فالمداوي والشافي هو الله وما الطبيب إلا سببٌ أنت مأمور بالأخذ به، ولأن حكمة الله اقتضته أما قلبُك فمتعلق بالله الذي هو على الحقيقة من يشفيك ويداوي سَقمك.

وعندما تُعِدُّ العُدَّة للقاء عدوّك فإنما تفعل ذلك لأن الله أمرك بقوله: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ [الأنفال 60] أما النصر والظفر فهو من عند الله تعالى ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ [آل عمران 126]  

فاستحضار القلب بأن الله هو الفاعل على الحقيقة في كل شيء هو جزء لا يتجزأ من الأدب مع الله بل هو جزء لا يتجزأ من الإيمان.

يقول ابن عطاء الله: لا تَمدَّنَ يدك إلى الخلائق ألا تَرى أن المعطي فيهم مولاك فإن كنت كذلك فخذ ما وافق العلم. 

ويقول سهل التستري: ما من وقت إلا والله تعالى مطلع فيه على قلوب عباده فأي قلب رأى فيه حاجة إلى سواه سَلَّط عليه الشيطان وحجبه عنه.

 

  • من مقامات الأدب مع الله تعالى: ألا يكون طلبك من الحق سبحانه سببًا إلى العطاء منه فهذا قصور في الفهم فالله ليس بغافل عن حاجتك حتى تنبهه عليها وليس بناسٍ حتى تذكّره بها؛ بل هو الرب المطَّلِع على كل شيء الفعَّال لما يريد، والأدب مع الله تعالى أن يكون الطلب منه إظهارًا للعبودية وقيامًا بحقوق الربوبية، وإظهارًا للفاقة بين يديه.

يقول أحد الصالحين: لا يكن حظك من الدعاء الفرح بقضاء حاجتك فتكون من المحجوبين. وتختلف في هذا المعنى مراتب الخلق باختلاف تعلقهم وأدبهم مع الحق.

نكتفي بهذا القدر وإلى لقاء قادم بمشيئة الله تعالى نتابع الحديث فيه عن الآداب والأخلاق.

اللهم اهدنا لمحاسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنَّا سيءَ الأخلاق لا يَصرِفُ عنَّا سيئَها إلا أنت. 

اللهم وفقنا لمحابِّك وألهمنا مراشد الصواب والهداية.

وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.