سلسلة من أدبه قبل علمه | الأدب مع الله عز وجل (2) | المقالة التاسعة | الشيخ أنس الموسى

 

        •  أدبُ الناس مع مَلِكِ الناسِ سبحانه وتعالى

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيِّدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم إنا نستهديك لأرشد أمرنا وزدنا علمًا ينفعنا. 

وبعد: فهذا هو اللقاء التاسع وما يزال الحديث عن الآداب متجددًا وقد تحدثنا في اللقاء الماضي عن أدب الأنبياء مع ربهم سبحانه وتعالى.

واليوم بمشيئة الله عز وجل سنتحدث عن أدب العباد – مِن غير الأنبياء – مع ربهم سبحانه وتعالى.

أيها الإخوة: إن الأدب أياً كان نوعه ـ قولاً أو فعلاً ـ خُلُقٌ عظيمٌ، ووصفٌ نبيل، ويزداد علواً وعزاً وشرفاً إذا كان مع الله عز وجل فهو أحق من يُتَأدَّبُ معه. 

أيها الإخوة: الحديث عن الأدب مع الله تعالى حديثٌ يشرح الصدر، ويهذب النفس ويزكِّيها، ويسمو بها إلى معالي الأمور، والأدب – كما أسلفنا – هو سلوكُ الأنبياء، وشعار الأتقياء، وديدن الحكماء، وعلامة الألبَّاء، ما تحلَّى به عبد إلا ارتفع، وما جانبه إلا سَفُلَ ووَضَع، وإذا كان الأدب مع الخَلق من أحسن الصفات، فإن الأدب مع الخالق جل جلاله من أَجَلِّ المهمَّات وأرفع مراتب الأدب وأعلاها وأزكاها، فما تأدّبَ متأدِّبٌ بأحسن من أدبه مع ربِّه خالقِه ومولاه، وما أساء امرؤٌ الأدب بأسوأ من إساءته الأدب مع ربه سيدِه خالقِه ورازقِه .. 

أيها الأحبة: إذا كان التأدب مع أصحاب الفضل واجباً‮ ‬فإن من أوجب الواجبات التأدب مع الله تعالى، ‮ ‬فهو سبحانه وتعالى صاحبُ كلِّ فضل، و‬المستوجبُ لكلِّ حَمْد، ‬فالأدب معه جوهرُ العبودية،‮ ‬وهدفُ كل عبادة وغايتها.

 

    •  ‮أتساءل فأقول: ‬كيف‮ ‬يكون العبد عبداً‮ ‬على الحقيقة وهو‮ ‬يجاهر بسوء أدبه مع معبوده؟! 
    • ‬أم كيف‮ ‬يكون العبد مؤمناً‮ ‬بيقين وهو لا‮ ‬يلتزم ما‮ ‬يأمر به ربه،‮ ‬ويبتعد عن ما‮ ‬ينهاه عنه؟!

 ‮مما لا شك أن ربط الإيمان بالعمل هو جوهر الأدب مع الله تعالى، ‮وهو ربط وارد في‮ ‬كل آيات القرآن الكريم،‮ ‬فلم‮ ‬يُذكَر الإيمان دون اقترانه بالعمل الصالح،‮ ‬وتلك هي‮ ‬حقيقة العبودية وجوهرها‮، وصدق من قال:

تعصي الإله وأنت تُظْهِرُ حُبَّهُ   هذا لعمري في القياسِ بديعُ

لو كان حبُّكَ صادقًا لأطعته     إنّ المحبَّ لمن يحبُّ مطيعُ

 

يقول أحد الصالحين: الأدب مع الله تعالى مرتبة عَلِيَّهٌ، ومنزلةٌ عظمى، لا تستقيم للعبد إلا بشروطها وهي: “معرفتُه سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته، ومعرفتُه بدينه وشرعه وما يُحبُّ ويكره، ونفسٌ مستعدة قابلة ليِّنَة متهيئة لقبول الحق علمًا وعملاً وحالاً”

فالأدب مع الله تعالى يكون بإيقاع العبدِ حركاتِه الظاهرة والباطنة على مقتضى التعظيم والإجلال والحياء.

 

      • أحوال الأدب مع الله تعالى ومقاماته

الأدب مع المولى تبارك وتعالى أنواعٌ ثلاثة:

أحدها: صيانةُ معاملته أن يشوبها بنقيصة.

والثاني: صيانة قلبه أن يلتفت إلى غيره.

والثالث: صيانة إرادته أن تتعلق بما يمقتك عليه

هذه الثلاثة جماع الأدب مع الله جل جلاله، وللخَلق معها أحوال ومقامات بحسب قربهم وتعظيمهم وإجلالهم لخالقهم وحيائهم منه سبحانه.

 

  • وأعظم مقامات الأدب مع الله تعالى: إخلاص التوحيد له، قولاً واعتقادًا وعملاً، وتنزيهه عن الأنداد والشركاء، فهل توجد إساءةٌ مع الله تعالى أعظمُ من اتخاذ شريك له ومعه، وهو الله الواحد الأحد، الخالق الرازق المالك المدبر؟ ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الروم:40].
  • ومن مقامات الأدب مع الله تعالى: مراقبته في السر والعلن في الغيب والشهادة، فلا يُرى العبد خاليًا مع نفسه أو شاهدًا مع الناس إلا وهو يستشعر اطلاع الله عليه، وهو مقام الإحسان الذي قال عنه رسول الله : «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لم تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ».

 إذا ما خلوتَ الدهرَ يومًا فلا تقلْ   خَلَوتُ ولكن قُلْ عَلَيَّ رَقِيبُ

ولا تَحْسَبَنَّ اللهَ يَغْفَلُ سَاعَةً          ولا أَنَّ مَا تُخْفِيهِ عَنْهُ يَغِيبُ

 

 يقول سفيان الثوري رحمه الله تعالى: لو كان معكم من يَرفع حديثكم إلى السلطان أكنتم تتكلمون بشيء؟ قلنا: لا قال: فإن معكم من يرفع الحديث إلى الله”   يعني الملائكة.  

أيها الإخوة: لا بد للمسلم أن ينظر إلى ما منَّ الله تعالى عليه من مِنَنٍ لا تحصى، ونِعَم لا تُعد، اكتنفته من ساعة علوقه نطفةً في رَحمِ أُمه، وتسايره إلى أن يلقى ربه عز وجل، فيشكر الله تعالى عليها بلسانه بحمده والثناء عليه بما هو أهله، وبجوارحه بتسخيرها في طاعته، فيكون هذا أدبًا منه مع الله سبحانه وتعالى؛ إذ ليس من الأدب في شيء كفران النعم وجحود فضل المنعم والتنكُّر له ولإحسانه وإنعامه، والله سبحانه يقول: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ﴾ [النحل:53]، ويقول سبحانه: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا﴾ [إبراهيم:34].

ولا ننسى أنَّ شكرَ المنعِم هو خُلُقُ الأنبياء عليهم السلام فقد قال سيدنا سليمان عليه السلام – لمَّا وهبه الله الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده – قال: ﴿رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ﴾ [النمل:19].

ولنترك سيدنا أبا هريرة يروي لنا حال سيدنا أيوب عليه السلام مع فضل الله تعالى عليه قال: «أُرْسِلَ عَلَى أَيُّوبَ رِجْلٌ مِنْ جَرَادٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَجَعَلَ يَقْبِضُهَا فِي ثَوْبِهِ، فَقِيلَ: يَا أَيُّوبُ أَلَمْ يَكْفِكَ مَا أَعْطَيْنَاكَ؟ قَالَ: أَيْ رَبِّ، وَمَنْ يَسْتَغْنِي عَنْ فَضْلِكَ». أجل أيها الإخوة من يستغني عن فضل الله تعالى.

 

  • ومن مقامات الأدب مع الله تعالى: تعظيم شعائره وحرماته؛ فيعظِّم ما عظَّمَهُ الله من الأشخاص والأزمنة والأمكنة والأعمال ، ويراعي ما يجب له من أدب وحرمة؛ تأدبًا مع الله تعالى، فيتأدب مع رسول الله الأدبَ اللائقَ بمنزلته، ومع أهل العلم والدين، ومع والديه، ويتأدب مع الأزمنة المعظمة ومواسم العبادة كالأشهر الحرم وشهرِ رمضان وغيرِها، ومع الأماكن الشريفة؛ كالبيت الحرام ومسجد النبي خاصة، وبيوت الله عامة في كل مكان: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ﴾ [الحج:30]

 ومن مقامات الأدب مع الله تعالى: التسليم التام لآياته وأحكامه، وعدم الخوض فيها بغير علم، أو التقوُّلُ على الله تعالى بغير دليل ﴿فَلَا وَرَبِّك لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَينَهُم ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِم حَرَجًا مِمَّا قَضَيتَ وَيُسَلِّمُوا تَسلِيمًا﴾ [النساء:65] 

أيها الأحبة: من دقيق الأدب مع الله تعالى ما أمر به رسول الله أن يستر الإنسان عورته وإن كان خاليًا لا يراه أحد، وذلك عندما سأله السائل فقال: «يا رسول الله، عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: ” احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك “. قال: قلت: يا رسول الله فإذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: ” إن استطعت أن لا يراها أحد فلا يَرينها “. قلت فإذا كان أحدنا خاليا؟ قال: ” فالله أحق أن يستحيا منه».

 

  • ومن أحوال الأدب مع الله تعالى: التأدب للصلاة خارجَها وداخلَها؛ بالتطهرِ لها وأخذِ الزينة، والسكونِ فيها والخشوعِ والطمأنينة، فترك ذلك من إساءة الأدب مع الله تعالى.

يقول أحد الصالحين: من كمال أدب الصلاة أن يقف العبد بين يدي ربه مطرقًا، خافضًا طرفه إلى الأرض، ولا يرفع بصره إلى فوق.

وسئل عقبة بن عامر رضي الله عنه عن قول الله تعالى: ﴿الذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ﴾ [المعارج 23] أهم الذين يصلون دائمًا؟ فقال: لا ولكنه إذا صلى لم يلتفت عن يمينه ولا عن شماله ولا خَلفَه.

ويقول الحسن البصري: “صلاة بلا خشوع هي إلى العقوبة أقرب”. هي إلى العقوبة أقرب لما فيها سوء الأدب مع الباري سبحانه.

 

  •  ومن مقامات التأدب مع الله تعالى: التأدب في دعائه، بالانكسار له وإظهار الفاقة والحاجة إليه دون غيره، وسؤاله بأسمائه وصفاته ﴿ادْعُوا رَبَّكُم تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّه لَا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ﴾ [الأعراف 55].
  • ومن مقامات الأدب مع الله تعالى أن ينظر المسلم إلى علم الله تعالى به واطلاعه على جميع أحواله، فيمتلئ قلبُه من ذلك مهابة، ونفسُه منه وقارًا وتعظيمًا، فيستحي من معصية مولاه ومخالفتِه والخروجِ عن طاعته، فيكون هذا أدبًا منه مع الله تعالى؛ إذ ليس من الأدب في شيء أن يجاهر العبدُ سيدَه بالمعاصي، أو يقابله بالقبائح والرذائل وهو يشهده وينظر إليه، قال تعالى: ﴿مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا﴾ [نوح: 13، 14]، وقال: ﴿يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾ [النحل:19]، وقال: ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاء﴾ [يونس:61].

أيها الإخوة: أحوال التأدب مع الله كثيرة لا يحصيها عادٌّ؛ إذ الشريعة كلها جاءت بمراعاة الأدب معه سبحانه وتعالى.

نقف عند هذا الحد على أن نتابع الحديث في اللقاء القادم بمشيئة الله تعالى.

 اللهم اهدنا لمحاسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنَّا سيءَ الأخلاق لا يَصرِفُ عنَّا سيئَها إلا أنت. 

اللهم وفقنا لمحابِّك وألهمنا مراشد الصواب والهداية.

وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.