سلسلة من أدبه قبل علمه | الآدابُ في السنَّةِ النبوية وكتبِ أهلِ العلم | المقالة السادسة | الشيخ أنس الموسى

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيِّدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم إنا نستهديك لأرشد أمرنا وزدنا علمًا ينفعنا. 

وبعد: ما يزال اللقاء متجددًا في الحديث عن أهمية الأدب في حياة المسلم وقد تحدثنا في اللقاء الماضي عن الأدب من خلال بيان الله عز وجل واليوم سنتابع الحديث ونتكلم عن الأدب في سنة نبينا محمد.

أيها الإخوة: نظرًا للمكانة المرموقة للآداب في ديننا الحنيف، فقد عادت السنة لتذكر الآداب وتؤكد على أهميتها كما ذكرها كلام الحق سبحانه في كتابه العزيز مما بيّنّا بعض جوانبه في اللقاء الماضي.

لقد وضَّح رسول الله أن حُسن الخلق من متمِّمات الإيمان فقال: «أكملُ المؤمنين إيماناً أحسنُهم خُلقاً وخيركم خيركم لنسائهم»

بل لقد اختصر النبي كثيرًا من الآداب والأخلاق وبيَّن علاقتها بالإيمان عندما قال: «الإيمان بضع وسبعون – أو بضع وستون – شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان».

وهذا أبو ذر الغفاري رضي الله عنه يذكر وصية رسول الله له عندما قال له: «اتّق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحُها، وخالقِ الناسَ بخُلُقٍ حسن»

وعادت السنة النبوية لتبين مكانة الأخلاق وعلاقتها بالإيمان كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه عن النبي : «خَصلتان لا تجتمعان في مؤمن، الإيمان وسوء الخلق».

وبحديث النبي الذي اعتبر خُلق الحياء – وهو قمة الآداب – من ركائز الإيمان فقال: «الإيمان بضع وستون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان».

بل لقد وضح النبي أن التحلي بالآداب والأخلاق سببٌ للنجاة من النار فقال: «ألا أخبركم بمن يَحْرُم على النار أو بمن تَحرُم عليه النار؟ على كل قريبٍ هيّن سهل».

وقد بيّن رسول الله أن التمايزَ بين الناس وتفضيلَ بعضهم على بعض إنما يكون بحسن الخلق فقال: «إن خيارَكم أحاسنكم أخلاقًا».

ولقد أرسل النبي رسالة يوضح فيها خطأ من يظن أنه بقوّته وبأسه يَفْضُلُ الناس فقال: «ليس الشديد بالصُّرَعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب»

وقد أوصى رسول الله أبا ذر رضي الله عنه فقال له: «خالق الناس بخُلُقٍ حسن».

وقد بيّن النبي أيضًا أن حُسنَ الخُلق تُنْزِلُ صاحبها منزلة من يقوم الليل فقال: «إن الرجل ليدرك بحسن خُلقه درجة القائم بالليل».

وغيرُ هذا في حديث النبي كثير جدًا جدًا، بل لا تكاد تجد كتابًا من كتب السنة التي جمعت في ثناياها حديثَ النبي إلا وتجد فيه كتابًا أو بابًا يتحدث عن الأدب.

 فهذا صحيح البخاري وهو أصح كتاب بعد كتاب الله عز وجل قد أفرد فيه كتابًا خاصًا بالأدب وجعل تحته ثمانيةً وعشرين بابًا بعد المئة كلها تتعلق بالأدب منها باب طيب الكلام، وباب صلة الأخ المشرك، وباب حسن الخلق وما يكره من البخل، وباب حفظ السر، وباب إغلاق الأبواب في الليل، وباب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته، وباب الحبِّ في الله… إلى غير ذلك من الآداب. 

وهذا صحيح مسلم وهو من أصح كتب السنة بعد صحيح البخاري يفرد أيضًا كتابًا خاصًّا بالأداب فيقول: كتاب البر والصلة والآداب ويذكر تحته كثيرًا من الأحاديث التي تبين الأدب وتوضحه.

وكذلك فعلت كتب السنن الأخرى كسنن ابن ماجه وسنن أبي داوود والترمذي وجميعهم عنْوَنُوا وبَوَّبُوا لكتاب الأدب وذكروا أحاديث تتعلق بالآداب.

بل إن بعض العلماء أفرد كتبًا خاصة تتعلق بالأدب؛ فهذا الإمام البخاري صاحب الصحيح صنَّف كتاب “الأدب المفرد” أودع فيه آدابًا لم يذكرها في كتابه الشهير بصحيح البخاري.

 وكذلك فعل أبو بكر ابن أبي شيبة في كتابه “الأدب”، والحارث المحاسبي في كتاب “آداب النفوس” والحكيم الترمذي في كتاب من “أدب النفس”، وابن مُفْلِحَ الحنبلي في كتاب “الآداب الشرعية”، والماوردي في كتاب “أدب الدين والدنيا” وغيرها من كتب أهل العلم من المتقدمين كثير كثير.

أما من أهل العلم المعاصرين فنجد كتاب “من أدب الإسلام” للشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله تعالى وهو كتاب صغير حجمه كثيرة فوائده، وكتاب “آداب إعارة الكتاب في التراث الإسلامي” لمحمد خير رمضان يوسف، و”آداب إسلامية لبراعم إيمانية” لمصطفى محمد الجندي، و”آداب العالم والمتعلم في التراث العربي والإسلامي” لفاضل عباس البخاري، وغيرها كثير.

بل لقد ظهر اهتمام العلماء بالأدب حين أفردوا آدابا تخص طالب العلم بل وخصصوها بآداب تتعلق بنوع معيَّن من العلم كما فعل الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى في كتابه المسمى “الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع” فقد أودع في هذا الكتاب ما ينبغي للمحدث وطالب الحديث أن يتحلَّيا به من الآداب والواجبات التي تقتضيها صنعة التحديث.

وكذلك فعل الإمام عبد الكريم السمعاني في كتابه الذي تحدث فيه عن آداب تلقي الحديث وإلقائه في كتابه “أدب الإملاء والاستملاء”.

ولقد أفرد العلماء آدابًا تخص المفتين، وآدابًا ترشد أهل العلم المتناظرين كآداب البحث والمناظرة… وهو شيء أكثر من أن يحصى.  

ولو رجعنا لكتب الفقه لرأينا كيف اهتمت بالآداب فرتبتها بحسَب الموضوعات.

 ففي كتاب الطهارة نجد كتاب الاستنجاء، وفي كتاب الصلاة آداب الصلاة، وفي كتاب القضاء نجد آداب القاضي، وفي كتاب الجهاد نجد آداب الغزو، وفي كتاب الحج نجد آداب الطواف، ورمي الجمرات، وما يتعلق بالنساء نجد آداب النساء، وما يتعلق بالرجال نجد آدابًا خاصة بالرجال، حتى عند دخول مكة هناك آداب خاصة تتعلق به ولو استقرأنا لوجدنا أن فقهاء الإسلام جعلوا لكل عملٍ شرعيٍ آدابًا تخصه سواء أكان واجب الأداء أم مندوبًا أو مباحًا.

 فلو كان الحديث عن التجارة والتجار نجد لها آدابًا، ولو كانت المسألة تتعلق بالطب والطبيب نجد آداب الطب وما ذلك إلا لمكانة الأدب عندهم.

نكتفي بهذا القدر من الحديث عن الأدب في السنة لنبوية فإلى لقاء قادم بمشيئة الله تعالى نتابع الحديث فيه عن الآداب والأخلاق.

اللهم اهدنا لمحاسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلاَّ أنت، واصرف عنَّا سيئ الأخلاق لا يصرِف عنَّا سيئَها إلاَّ أنت. 

اللهم وفقنا لمحابِّك وألهمنا مراشد الصواب والهداية.

وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.