سلسلة من أدبه قبل علمه | أهمية الأدب في حياة المسلم 3 | المقالة الثالثة | الشيخ أنس الموسى

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيِّدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم إنا نستهديك لأرشد أمرنا وزدنا علمًا ينفعنا. 

وبعد:

فهذا هو اللقاء الثالث في سلسلة “من أدبه قبل علمه”، وقد تحدثنا في اللقاء الماضي عن أهمية الأدب في حياة المسلم من خلال ذكر أمثلة من سيرة سلفنا الصالح تبين ذلك وتوضحه، واليوم بمشيئة الله تعالى سنكمل الحديث في نفس المحور فنقول وبالله التوفيق: 

لا يشك عاقل أن الأدب هو من واجبات الدين وأركانه فقد بُعث نبينا محمد ليتمم مكارم الأخلاق فقال: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق». فالأدب ضروري في كل شؤون المسلم وبكافة تفاصيل حياته الدينية والدنيوية.

 الأدب مطلوب مع خالقنا سبحانه وتعالى، كما أنه مطلوب مع أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام.

 وهو مطلوب في المسجد كما أنه مطلوب في السوق والشارع.

 مطلوب في الأسرة، وفي علاقة الأولاد بوالدِيهم وعلاقة الآباء بأبنائهم، في العلاقة بين الأقارب وأرحامهم.

 يُطلَبُ الأدب في المدرسة والجامعة، في العلاقة بين التلميذ والأستاذ.

 يُطلَبُ على مائدة الطعام كما يُطلَبُ في ساحة الجهاد.

 يطلب عند التحية والدخول والخروج والاستئذان، وفي الحديث مع الكبير والصغير، في الجِدِّ والهَزْل، في الفرح والحَزَن. في الحِلِّ والتِّرحال في الحضر والسفر، في النوم والاستيقاظ.

 يجب الأدب على الرجل كما يجب على المرأة، وعلى الصغير والكبير، الغني والفقير، والمتعلم والجاهل على حد سواء.  

الأدب يدخل كلَّ تفاصيل حياتنا؛ يبدأ من فراش الزوجية وصولًا للعلاقات الدولية؛ لأن الأدب هو الدين الذي بعث رسول الله ليكمِّلَه ويُتمِّمَهُ، فديننا لم يترك مِفصَلاً من مفاصل الحياة إلا وحدَّدَ فيه نوع المعاملة وكيفيتها وطريقتها وبذلك يَظْهرُ أثر الدين في حياة المسلم وفي كل ما حوله، بل ويَظْهَرُ سموُّ الشريعة وعَظَمَتُها وكمالُها. مهمة: ليس تسميتها آدابًا أنها على طَرَفِ الحياة والسلوك يُخَيَّرُ الإنسانُ في فِعْلِهَا وتَرْكِها والأَوْلَى فِعْلُها، بل الأدبُ هو الدِّين، والأخذُ بالأدب والتمسُّكُ به هو أخذٌ بالدين وتمسكٌ به.    

لقد استغرب المشركونَ مِن شمول الدين بآدابه كل هذه النواحي حتى قال أحد المشركين لسلمان الفارسي رضي الله عنه – مستهزءًا- “لقد علمكم نبيُّكم كلَّ شيءٍ حتى الخِراءة – أي أدب التخلي وقضاء الحاجة – فأجاب سلمان رضي الله عنه: أجل لقد نهانا نبيُّنا ألاَّ نَستقبِل القِبْلَة بغائط ٍ أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار…”.

ديننا كله أدب فستر العورة من الأدب، وتحديد ما يَحِلُّ لك أن تراه من محارمك وما لا يَحِل من الأدب.

 حتى الدخول على الوالدين أو أحدهما له آدابه، فقد جاء رجل إلى النبي «فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَسْتَأْذِنُ عَلَى أُمِّي؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنِّي مَعَهَا فِي الْبَيْتِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: اسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا. فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنِّي خَادِمُهَا. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «اسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا أَتُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً؟ قَالَ: لاَ. قَالَ: “فَاسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا». 

﴿وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [النور 59]

كيف يخاطب المحكوم حاكمه والمرؤوس رئيسه والراعي رعيته، والأمير أقرانه من حكام البلاد وأمرائها له آدابه.

 ولننظر إلى رسائل نبينا محمد  إلى قيصر عظيم الروم بالشام، وإلى النجاشي في الحبشة، وإلى المقوقس حاكم مصر؛ نراها رسائل تنضح بالأدب والذوق الرفيع والحكمة.

فقد أرسل دحيةَ الكلبي – وقد كان حَسَنَ الصورة والمظهر فارسًا وعليمًا بالروم – إلى هرقل الرومي فقال في مُسْتَهَلِّ رسالته: «بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى..». كلام حسن لرجل لم يدخل الإسلام بعد صدق الله إذ يقول: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة 83] للناس كل الناس؛ فالله لا يحب الفاحش ولا البذيء.

وسنفرد بمشيئة الله تعالى حديثًا خاصًا في آداب مخاطبة الملوك والأمراء.

اللهم وفقنا لمحابك وألهمنا مراشد الصواب والهداية.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.