سلسلة مقالات فقه السيرة النبوية| المقالة الثامنة والعشرون| المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد. 

بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان العمل الأول الذي قام به بعد بناء المسجد هو المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار.

من يضطر للهجرةِ إلى بلد آخر، يختلف عن بلده في العادات والتقاليد والثقافة، تحصلُ له مشكلات كثيرة: من آلام الغربة، وتردي الأحوالِ الاقتصاديةِ، وتدهور الأحوال الصحية، يضاف إلى ذلك المشاكل التي يعاني منها البلد المضيف؛ فإن ذلك يعني تفاقم المشاكل؛ فالموقف إذن حرج، يحتاج إلى وضع حلول سريعة جداً، وكل هذا عانى منه المهاجرون، فكيف حل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه المعضلات الضخمة؟ حلها:

أولاً: بتهيئة المهاجرين نفسياً على قبول فكرة الهجرة، وتهيئةُ الأنصار لاستقبالهم.

فبدأت الآيات تتنزل تباعاً، ترفع من قدر الهجرة في سبيل الله، وتؤكد على المنزلة الرفيعة التي يتبوؤها المهاجرون؛ حتى أصبح المهاجر يفتخر بأنه مهاجر، وأصبح أسمى ما يصبو إليه الأنصاري ويفخر به أن يؤوي إليه مهاجراً؛ فارتفعت بذلك معنويات المهاجرين إلى السماء، وأضحت الهجرة مدعاة للفخر والاعتزاز.

ونزل القرآن يثني على حب الأنصار لإخوانهم، وإيوائهم إياهم في بيوتهم، وإيثارهم على أنفسهم، مع ما هم فيه من الخصاصة، والفقر الشديد، هذا من جهة، وتشجيعاً لهم من جهة أخرى. فيقول: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[1].

فصار المهاجرون بهجرتهم يحسون بالعزة والشمم، لا بالذلة والانكسار، وأضحى الأنصار يشعرون بنصرتهم لإخوانهم بأنهم يقومون بواجب شرعي أوجبه الله عليهم، وهم ينتظرون من الله الجزاء الأوفى، دون أي شعور بثقل إخوانهم عليهم، ولن تجد مثل هذا في غير الإسلام، بينما اللاجئون من غير المسلمين في بقاع الأرض أجمع تجدهم يمثلون عبئاً ثقيلاً على البلد المضيف لهم، بل اللاجئون أنفسهم يشعرون بالهوان والإحباط والمسكنة؛ لكونهم تركوا ديارهم وعشائرهم وممتلكاتهم، ولا يقبلون الاندماج مع المجتمع الجديد المضيف لهم؛ وما ذلك إلا لعدم الإيمان بالله، الذي يُعْتَبَرُ أهم أركان بناء الأمة على الإطلاق.

ثانياً: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، فكان لتلك الأخوة آثار إيجابية، غيرت أفكاراً وعقائد وتقاليد متوارثةً وثقافات.

من هذه الآثار: أن تكون تلك الأخوة فوق أخوة النسب؛ فعلى أساسها يتوارثون، وألغي التوارث على أساس النسب والقرابة، وقد استمر العمل على هذا زمناً، حتى استطاع المهاجرون أن يألفوا المدينة، ويندمجوا في المجتمع، وفتح الله لهم أبواب الخير من غنائم الحرب وغيرها، فنسخ الله تعالى العمل بهذا الحكم، وأرجع نظام الإرث إلى ما كان عليه. 

ومنها: أن تذوب وتتلاشى العصبية الجاهلية، التي مبناها على قول النبي صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)[2]، لكن على مفهوم الجاهلية، بل صارت الحمية لله ولدينه دين الإسلام.

ومنها: أن تسقط فوارق النّسب واللون والقبيلة، فلا يتأخّر أحد أو يتقدّم إلا بالتقوى والعمل الصالح.

ومنها: أن تكون عواطف الإيثار والمواساة والمؤانسة مبنيةً على تلك الأخوة في الله.

ومنها: حفاوة الأنصار بإخوانهم المهاجرين، لدرجة أنه لم يكن ينزل مهاجريّ على أنصاري إلا بالقرعة.!![3]

وبالمقابل، نجد المهاجرين قد قدّروا لإخوانهم الأنصار هذه الحفاوة، وهذا البذل، الذي انقطع أن يوجد له نظير في الدنيا، فما استغلّوه، ولا نالوا منه إلا ما يناله الوصي على مال اليتيم.

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.  

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]: سورة الحشر،9.

[2]: رواه البخاري، 2443. ومسلم، 6674- 2584. 

[3]: السيرة النبوية كما جاءت في الأحاديث، 136/3.