سلسلة مقالات فقه السيرة النبوية| المقالة السابعة والثلاثون| غزوة الخندق

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد.

كان سبب غزوة الخندق استجابةَ قريشٍ وغطفانَ لتحريض أشراف اليهود على غزو المدينة، فطار الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستشار أصحابه، فأشار سلمان الفارسي بحفر الخندق، فبادر إليه الرسول والمسلمون، وتم حفره بوقت قياسي أشبه بالمعجزة.

وكان النبي عليه الصلاة والسلام يعمل مع المسلمين، فيحفر ويحمل التراب؛ وهذا من أخلاق القادة العظام الواثقين بأنفسهم، ولم يكن عمله من قبيل التمثيل الذي يتقنه الزعماء المهرجون، ثم قام وبطنه معصوب بحجر من شدة الجوع، فدعاه جابر بن عبد الله إلى طعام، يكفي النبي واثنين معه، فجاء بأهل الخندق جميعاً بعد أن سأل عن حجم الطعام؛ ثقةً بالله عز وجل، وترفعاً عن أن يخص نفسه بطعام دون أصحابه، فدعا وبرَّكَ على الطعام، فأطعم أهل الخندق جميعاً، وبقي الطعام كما كان. 

وجاء المشركون؛ ففوجئوا بالخندق، فوقفوا خلفه عاجزين مدهوشين إلا أن بعض فرسانهم، كعمرو بن عبد ود، اقتحموا الخندق، ودعوا إلى المبارزة، فانتدب لعمرو علي بن أبي طالب فقتله، فولى الآخرون لا يلوون على عقب. 

في هذه الآونة العصيبة نقضت بنو قريظة المعاهدة، التي بينهم وبين المسلمين، فتأزم الموقف، وتفاقم الأمر، وزاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، وَزُلْزِل المُؤْمِنُونَ زِلْزَالًا شَدِيدًا، وما حصل كل هذا إلا ليميز الله الخبيث من الطيب؛ فظهر المنافقون بوجوه كالحة، وألسنةٍ تلفظ سموماً ناقعات، وأخذوا يَهْرُبُون من الصف بحجج واهية.

وفكر النبي في كسر تحالف العدو، فرأى بثاقب فكره، وصائب رأيه، أن قبائل غطفان يمكن أن تَفُكَّ تحالفها مع قريش إذا أغريت بالمال، فراسل زعماءهم، وعرض عليهم ثلث ثمار المدينة لسنة واحدة مقابل أن يرجعوا إلى بلادهم بشرط قبول مجلس شورى المسلمين، فرضوا بذلك، فدعا النبي السعدين سيدي الأوس والخزرج، فاستشارهما، «فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمْرًا تُحِبُّهُ فَنَصْنَعُهُ، أَمْ شَيْئًا أَمَرَكَ اللَّهُ بِهِ لابد لَنَا مِنَ الْعَمَلِ بِهِ، أَمْ شَيْئًا تَصْنَعُهُ لنا؟ قال: “بَلْ شَيْءٌ أَصْنَعُهُ لَكُمْ، فقال سعد بن معاذ: والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم، وأخذ الصحيفة ومحا ما فيها» [1].

ولو تم هذا الاتفاق لاهتزت صورة الدولة الإسلامية أمام جميع العرب، ولَفُتِحَ لهؤلاء الأعراب بابُ الابتزاز المستمر لأهل المدينة. 

وليس لأحد أن يستدل باستشارة النبي عليه الصلاة والسلام أن ينفذ ما عرضه على غطفان على جواز دفع المسلمين الجزية لأعدائهم عند الضرورة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما أراد بذلك إلا أن يطمئن على الروح المعنوية لأصحابه.

  • وهل في أخذ النبي عليه الصلاة والسلام بمشورة السعدين دلالةٌ على وجوب أخذ المستشير برأي الأغلبية؟
  • القول الصحيح الذي اتفق عليه عامة الفقهاء أن الشورى ليست بملزمة. 

ثم الوسيلة التي كان يلجأ إليها النبي صلى الله عليه وسلم في كل حروبه هي الدعاء والتضرع إلى الله، وهي الوسيلة التي تعلو في تأثيرها على كل الأسباب والوسائل المادية الأخرى على أهميتها، بل لا قيمة للأسباب الأخرى من دونها. فتدخلت العناية الإلهية لتأخذ على أيدي المجرمين؛ «فألهم نُعَيْم بن مسعود أن يُسْلمَ، ويَعْرِضَ خدماته على النبي، فَيقولَ له خَذِّلْ عَنَّا مَا اسْتَطَعْتَ، فَإِنَّ الْحَرْبَ خُدْعَةٌ» [2]

 فاستطاع بدهائه أن يؤلب المشركين بعضهم على بعض، ويجعلَ كل فريق منهم يتهم الفريق الآخرَ بالغدر والخيانة؛ مما كان له الأثر البالغ في فك الحصار عن المسلمين. 

وأرسل ريحاً صرصراً؛ زلزلت أعداء الله، (فقال أبو سفيان: يا معشر قريش، إنّكم والله ما أصبحتم بدار مقام، قد هلك الكُرَاعُ والخفّ، وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من شدة الريح ما ترون، فارتحلوا فإنّي مرتحل) [3]، وفُكَّ الحصار، وعاد الأمن إلى المدينة، وتم النصر.

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

_____________________________________

[1]: معرفة السنن والآثار البيهقي، 13/ 412.

[2]: البيهقي في دلائل النبوة، 3/ 446.

[3]: سيرة ابن هشام، 2/ 232.