سلسلة مقالات فقه السيرة النبوية| المقالة السادسة والثلاثون| غزوة بني المصطلق

بسم الله الرحمن الرحيم

 

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد.

بَلَغَ النبيَّ أَنَّ بَنِي الْمُصْطَلِقِ يَجْمَعُونَ لحربه، فخَرَجَ إلَيْهِمْ، فداهمهم عَلَى مَاءِ الْمُرَيْسِيع، فَهَزَمَهم، وَقَتَلَ مِنْهُمْ مَنْ قَتَلَ، وَنَفَلَ أَبْنَاءَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ [1]، وقسم الغنائم على المقاتلين.

وسئل الرسول عن العزل فقال: «ما عليكم ألَّا تفعلوا، ما من نَسَمَةٍ كائنةً إلى يوم القيامة، إلا وهي كائنة» [2].

قال عبد الله بن أبي: (أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ) إثر مشاجرة بين مهاجري وبين لصيق بالأنصار، فَبَلَغَ النَّبِيَّ ما قاله فقال عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا المُنَافِقِ، فَقَالَ النَّبِيُّ: «دَعْهُ، لاَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ» [3].

ولكن أَذِّنْ بالرحيل، فسار بالناس يوماً وليلة، ثم نزل بهم فلم يلبثوا أن وجدوا مس الأرض فوقعوا نياما؛ ليشغل الناس عن التحدث بما قاله ابن أُبَيّ. وفي منصرف المسلمين من هذه الغزوة كانت حادثة الإفك وملخصها أن عائشة خرجت من المعسكر لقضاء حاجتها ففقدت عقدا لها فشغلت بالبحث عنه وأمر الرسول بالرحيل فلما رجعت فلم تجد في المعسكر داعياً ولا مجيباً فجلست في مكانها وكان صفوان بن المُعَطَّلِ رضي الله عنه خلف الجيش فأصبح عنده فعرفها فألحقها بالجيش فاتهمها المنافقون في عرضها ومكث النبي شهراً لا يوحى إليه في ذلك وراح يسأل عن عائشة كل من له صلة بها فنزهها الجميع ثم نزل القرآن الكريم ببراءتها

«فأَمَرَ بِمِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ، وَحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ، وَحَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَكَانُوا مِمَّنْ أَفْصَحَ بِالْفَاحِشَةِ، فَضُرِبُوا حَدَّهُمْ» [4].

  • نأخذ من هذه الغزوة ما يلي:
  • أولاً: فِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ الْإِغَارَةِ عَلَى الْكُفَّارِ الَّذِينَ بَلَغَتْهُمُ الدَّعْوَةُ مِنْ غَيْرِ إِنْذَارٍ لكن يستحب وهو الصحيح وبه قال الجمهور.
  • ثانياً: الصحيح جَوَازُ اسْتِرْقَاقِ الْعَرَبِ؛ لِأَنَّ بَنِي الْمُصْطَلِقِ عَرَبٌ مِنْ خُزَاعَةَ وهو قول الجمهور.
  • ثالثاً: مشروعية تقسيم الغنائم بين المقاتلين، بعد استثناء السَّلَبِ والخُمْسِ من الغنيمة، وهذا متفق عليه بين الأئمة في الأموال المنقولة، أما الأرض ففي تقسيمها خلاف: فلا تقسم عند مالك والحنفية إلا أن يكون فيه مصلحة ويجب تقسيمها عند الشافعية وهو الظاهر عند الإمام أحمد.
  • رابعاً: جواز العزل عند الأئمة الأربعة؛ لما رواه الشيخان عن جابر أنه قال: «كنا نعزل على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم والقرآن ينزل».

بشرط موافقة الزوجة، غير أنه يكره ذلك إذا كان سببه خشيةَ الفقر، ويقاس عليه إسقاطِ النطفة قبل نفخ الروح فيها

ويتبع ذلك أيضاً تحديدُ النسل فهو جائز بشرط اتفاق الزوجين دون أي توجيه من جهة إعلامية أو إلزام الدولة وألا يظن فيه ضرر للزوجة

  • خامساً: عالج النبي صلى الله عليه وسلم ما قاله زعيم المنافقين ابن أبي في براعة وحنكة منقطعة النظير في سياسة الأمور ولا ننسى أن هذه الصفاتِ متفرعةٌ عن كونه نبياً ورسولاً، وتلك خُطَّةٌ يختارها محترفو الغزو الفكري لشغل المسلمين عن التأمل بنبوته عليه الصلاة والسلام.
  • سادساً: جاءت محنة الإفك منطويةً على حِكَمٍ إلهية بالغة، فكان في تأخر الوحي كُلَّ هذه الفترة التي تأخرها، كي تتجلى للناس حقيقتان، كل منهما على غاية من الأهمية:

أما الحقيقة الأولى: فهي أن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يخرج بنبوته عن كونه بشراً، فلا ينبغي لأحد أن يَنْسُبَ إليه من علم الغيب وغير ذلك مما لا يجوز نسبته إلا لله وحده.

وأما الحقيقة الثانية: فهي أن الوحي الإلهي ليس شعوراً نفسياً وإشراقاً روحياً ينبثق من كيانه يؤلفه متى شاء وإلا لخلا من الوهلة الأولى بنفسه ساعةً وأَلَّفّ في براءة زوجه آياتٍ ثم ألقاها على كُتَّابِ الوحي وبهذا تكون المشكلة قُبِرَت في مهدها.

  • سابعاً: تظهر في قصة الإفك مشروعيةُ حد القذف. فقد أقيم الحَدُّ على الذين تفوّهوا بصريح القذف. وقد نجا ابن أبي الذي تولى كِبْرَ تلك الشائعة؛ لأنه كان يعالج الحديث بخبث، فكان يحكي الكلام في قوالب من لا ينسب إليه.

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]: سيرة ابن هشام، 2/ 290.

[2]: رواه البخاري، 2542، 4138، 5210، ومسلم، 127 – (1438) 127- (3536).

[3]: رواه البخاري، 4905، 4907، 3330،

[4]: سيرة ابن هشام، 2/ 302.