سلسلة مقالات فقه السيرة النبوية| المقالة الثالثة والثلاثون| يوم الرجيع

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد.

أُرسلت بنو لحيان إلى عَضَلٍ والقَارَةِ، وطلبوا منهم أن يكلموا الرسول؛ كي يرسل إليهم نفراً من أصحابه؛ يفقّهوهم في الدين، فبعث الرسول معهم عشرة من أصحابه، بإمرة عاصم بن ثابت، فلما نزلوا بالرجيع هجم عليهم من بني لحيان مِائَةُ رَامٍ، فلجأ عَاصِمٌ وَأَصْحَابُهُ إِلَى ربوة، فأعطوهم العهود والمواثيق ألاّ يقتلوهم إن استسلموا، فقال عَاصِمٌ: أَمَّا أَنَا فَلاَ أَنْزِلُ فِي ذِمَّةِ كَافِرٍ، فقاتل مع رفاقه فاستشهد منهم سبعة وَبَقِيَ خُبَيْب بن عدي وَزَيْدٌ بن الدثنة وعبد الله بن طارق، فَلَمَّا أَعْطَوْهُم العَهْدَ وَالمِيثَاقَ نَزَلُوا إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا تَمَكَّنُوا مِنْهُمْ غدروا بهم، فقيدوهم وقرّروا بيعهم لأهل مكة، وفي الطريق نزع عَبْدُ اللهِ يَدَهُ مِنْ رِبَاطِهِ فقاتل حتى قتل[1].

نستدل من هذا أنه يجوز للمسلم إن أحيط به من قبل الكفار أن يمتنع من قبول الأمان ويقاتل حتى يقتل، ويجوز له أن يترخص بقبول أمانهم، مترقباً فرصة النجاة، لكن لو قدر الأسير على الهرب لزمه ذلك في الأصح.

(وَانْطَلَقُوا بِخُبَيْبٍ وَزَيْدٍ حَتَّى بَاعُوهُمَا بِمَكَّةَ، فَاشْتُرِيَ خُبَيْبٌ ليقتل بالْحَارِثِ بْنِ عَامِرٍ، الذي قتله خبيب يوم بدر، واشْتَرَى صفوانُ زيداً ليقتله بأبيه أمية. فَمَكَثَا عِنْدَهُمْ أَسِيرين يتهجدان بالقرآن ليلاً، ويصومان النهار، ولا يأكلان مما لم يذكر اسم الله عليه. فَلَمّا انْسَلَخَتْ الْأَشْهُرُ الحرم، وأجمعوا على قتلهما، اسْتَعَارَ خبيب مِنْ بَعْضِ بَنَاتِ الحَارِثِ مُوسًى يَسْتَحِدُّ بِهَا فَأَعَارَتْهُ، فَدَرَجَ بُنَيٌّ لَهَا وَهِيَ غَافِلَةٌ حَتَّى أَتَاهُ، فَوَجَدَتْهُ مُجْلِسَهُ عَلَى فَخِذِهِ وَالمُوسَى بِيَدِهِ، قَالَتْ: فَفَزِعْتُ فَزْعَةً عَرَفَهَا خُبَيْبٌ، فَقَالَ: أَتَخْشَيْنَ أَنْ أَقْتُلَهُ؟ مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ ذَلِكَ)[2].

هذا المشهد يلخص طبيعة هذا الدين، الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وربّى عليه المسلمين. فكم الفرق بين فعل خبيب الذي صنعه الإسلام، وبين ما تنطوي عليه أفئدة المشركين من أحط مظاهر الخيانة والغدر؛ ابتغاء إطفاء غليل أحقادهم على المسلمين؟ لقد كان بإمكان خبيب أن يغتنم فرصة قبضه على الطفل، والشفرة بيده للمساومة من أجل إطلاق سراحه، لكنه لم يفعل؛ لأن دينه لا يسمح بالغدر. (ثم خرجت به قريش بقضها وقضيضها إلى التنعيم؛ ليقتلوه شر قتلة، فقال: دَعُونِي أُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، فَتَرَكُوهُ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ. فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ عِنْدَ القَتْلِ)[3].

(ثُمّ دعا عليهم فقَالَ: اللهُمّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا، وَاقْتُلْهُمْ بَدَدًا، وَلَا تُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا)[4]. قَالَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ: (لَقَدْ رَأَيْتُنِي أَتَوَارَى بِالشّجَرِ فَرَقًا مِنْ دَعْوَةِ خُبَيْبٍ)[5]. (ثم أخذوا يساومونه على دينه، يقولون: ارْجِعْ عَنْ الْإِسْلَامِ، نُخْلِ سَبِيلَك! قَالَ: لَا وَاَللهِ مَا أُحِبّ أَنّي رَجَعْت عَنْ الْإِسْلَامِ وَأَنّ لِي مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا! قَالُوا: فَتُحِبّ أَنّ مُحَمّدًا فِي مَكَانِك وَأَنْتَ جَالِسٌ فِي بَيْتِك؟ قَالَ: وَاَللهِ مَا أُحِبّ أَنْ يُشَاكَ مُحَمّدٌ بِشَوْكَةٍ وَأَنَا جَالِسٌ فِي بَيْتِي)[6]. (ثُمّ قَالَ: اللهُمّ إنّي لَا أَرَى إلّا وَجْهَ عَدُوّ، اللهُمّ إنّهُ لَيْسَ هَاهُنَا أَحَدٌ يُبَلِّغُ رَسُولَك السّلَامَ عَنّي، فَبَلّغْهُ أَنْتَ عَنّي السّلَامَ “فَسَمِعَ الصحابة النبيَّ يَقُولُ: وَعَلَيْهِ السّلَامُ وَرَحْمَةُ اللهِ، ثُمّ قَالَ: هَذَا جِبْرِيلُ يُقْرِئُنِي مِنْ خُبَيْبٍ السّلَامَ”، وأخذوا يطعنونه برماحهم، وهو يُوَحّدُ اللهَ، وَيَشْهَدُ أَنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللهِ، حتى فارق الحياة)[7].

وكذا فَعَلَ زيدٌ  حين قال له أبو سفيان: (أنشدك بالله يا زيد، أتحب أن محمداً مكانك، نضرب عنقه، وأنك في أهلك؟ قال: والله، ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه، تصيبه شوكة تؤذيه، وأني جالس في أهلي، فقال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحداً يحب أحداً، كحب أصحاب محمد محمداً).

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]: معناه في البخاري، 3989.

[2]: البخاري، 3989.

[3]: البخاري، 3989.

[4]:  البخاري، 3989 .

[5]: مغازي الواقدي، 1/ 359.

[6]: مغازي الواقدي، 1/ 360.

[7]: إمتاع الأسماع، 1/ 187.