سلسلة مقالات فقه السيرة النبوية| المقالة الثانية والثلاثون| غزوة أحد

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد. 

تنطوي غزوة أحد على دروس مهمة:

أولاً: خرجت قريش بثلاثة آلاف مقاتل تغزو المدينة؛ ثأراً لقتلاها يوم بدر، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم وكثير من شيوخ الصحابة وكذا عبد الله بن أبي ابن سلول أن يقاتلهم في داخل المدينة، ورأى الشباب المتحمسون الخروج لملاقاتهم، وألحوا على النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فدخل بيته فلبس لأمته وخرج؛ فقيل للشباب استكرهتم النبي، فقالوا ما كان لنا أن نستكرهك، فإن شئت فاقعد، فقال الرسول: “ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل”[1]، وهكذا أمور الحرب تحتاج إلى حزم لا إلى ضعف وتردد.

ثانياً: خرج الرسول عليه الصلاة والسلام على رأس ألف مقاتل، فرجع عبد الله بن أبي زعيم المنافقين بثلاثمائة، أغواهم فأطاعوه، مبرراً فعلته الشنيعة بقوله: (عصاني وأطاع الولدان)[2].

لعل الحكمة أن يميز الله المؤمنين من المنافقين، فقال: ﴿كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ﴾[3].

ثالثاً: اقترح بعض المسلمين أن يشارك اليهود في القتال مع المسلمين وفقاً للمعاهدة التي بينهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا نستنصر بأهل الشرك على أهل الشرك”[4]. وبناءً عليه قال جمهور العلماء: لا يجوز الاستعانة بالكفار في القتال، وقال الشافعي: (إن رأى الإمام أن الكافر حَسَنُ الرأي والأمانةِ في المسلمين، وكانت الحاجة داعيةً إلى الاستعانة به جاز، وإلا فلا)[5].

رابعاً: ألح رافع بن خديج وسمرة بن جندب على النبي أن يقبلهما مع المقاتلين، وهما أبناء خمسة عشر سنة، فردهما، فقيل: يا رسول الله، إن رافعاً رامٍ فقبله، فقال سَمُرَة: أنا والله أصرع رافعاً، فقبله أيضاً [6]، وكلهما أمل أن يكونا من الشهداء.

يفسر محترفو الغزو الفكري هذه الظاهرة، بأن العرب كانوا يعيشون في أجواء الحروب المستمرة، فلم تكن تسبب لهم شيئاً من المخاوف، مغمضين أعينهم عن تخاذل المنافق عبد الله بن أبي مع ثلاث مئة من أصحابه، تحت وطأة الخوف، وهم من العرب الذين نشأوا في ظلال الحروب. بل السر في ذلك الإيمان بالله ومحبة رسوله.

خامساً: بدأت المعركة حامية الوطيس، وما هي إلا جولات بسيطة حتى صال فيها الحق على الباطل، فولّى المشركون الأدبار، لا يلوون على عقب، فنزل أكثر الرماة من أماكنهم، مخالفين وصايا الرسول عليه الصلاة والسلام في ألا يغادروا أماكنهم مهما كانت نتائج المعركة سلباً أو إيجاباً حتى يأذن لهم؛ مما قلب الموازين لصالح المشركين، وأصيب سبعون من المسلمين، وكان ينبغي لهذا أن يحصل؛ لئلا يظن المسلمون أنهم ينتصرون في الطاعة وفي المعصية. لقد استفاد المسلمون من هذا الدرس في تحقيق الانتصارات فيما بعد، حتى بسطت الدولة الإسلامية نفوذها على نصف المعمورة. 

سادساً: لم يكن يوم أُحُدٍ هزيمةً للمسلمين بأي معيار من معايير الحروب؛ لأن المشركين لم يجرؤوا على متابعة الحرب حتى النهاية، ولم يكن لديهم أسير واحد، ولا شيء من غنائم الحرب، ولم تُسْتَبَح المدينة، ولم تُمْلِ قريش على المسلمين شروطَها كما يفعل الغالب بالمغلوب، بل ظل الجيش الإسلامي مسيطراً على ميدان القتال، بينما غادرت قريش أرض المعركة؛ ثم انطلق الرسول بجيشه يتعقبهم إلى حمراء الأسد، فولّوا مذعورين متخففين من أثقالهم، فغنمها المسلمون وتأكد نصرهم؟ 

سابعاً: كان المسلمون يرون وجود النبي صلى الله عليه وسلم بينهم مصدر قوتهم، وتماسكهم، واجتماع كلمتهم؛ لا يتصورون فراقه؛ فلو فوجئوا بموته لصدّع ذلك أفئدتهم، وزعزع كيانهم، وقوض الإيمانَ في قلوب كثير منهم. فأراد الحق أن يدربهم على تحمل مثل هذه الصدمة؛ فشاعت شائعة قتله؛ فألقى بعض المسلمين السلاح، وظنوا أن الإسلام انتهى، فنزل القرآن يسدد الخطا، ويهدي السبيل القويم ﴿وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ، قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ؟ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً، وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾[7]؛ لذا صمدوا يوم مات حقيقة، فوقف أبو بكر يقول: (من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت)[8]. فودّعوا الرسول بقلوب حزينة، ثم رجعوا إلى الدعوة والجهاد في سبيل الله، فقاموا بهما كما لو كان الرسول بينهم.

ثامناً: دفن النبي صلى الله عليه وسلم الشهداء بدمائهم، ولم يصلّ عليهم، وجمع بين الرجلين والثلاثة في قبر واحد، فدل على أن الشهيد في معركة الجهاد لا يغسل ولا يصلى عليه، وأنه يجوز عند الضرورة دفن جماعة في قبر واحد.

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى لآله وصحبه وسلم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]: مسند الإمام أحمد، 22/ 52.

[2]: عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير،14/2.

[3]: سورة التوبة، 46.

[4]: إمتاع الأسماع للمقريزي، 135/1.

[5]: (30) انظر مغني المحتاج، 221/4.

[6]: مغازي الواقدي، 216/1.

[7]: سورة آل عمران، 144/3.

[8]: صحيح البخاري، 3668.