سلسلة مقالات فقه السيرة النبوية| المقالة الحادية والثلاثون| بنو قينقاع وأول خيانة يهودية للمسلمين

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد. 

الحديث عن غزوة بني قينقاع يشمل النواحي التالية:

أولاً: أسباب الغزوة ارتكابهم جملة أعمال. 

  • منها: الصدّ عن دين الله، ومعاداةُ كل من يدخل في الإسلام، وطعنُهم في عبد الله بن سلام حين أسلم أكبر دليل. 
  • ومنها: الإخلال بالأمن، والإيقاع بين المسلمين كالفتنة التي أوقعها شاس بن قيس بين الأوس والخزرج، حتى كادت الحرب أن تقع بينهم، لولا أن الله سلم. 
  • ومنها: تجسّسهم على المسلمين لصالح المشركين.
  • ومنها: إيذاء النبي وأصحابِه أشدَّ الأذى.
  • ومنها: إظهار الغيظ من انتصار المسلمين في بدر، وتحديهم للمسلمين، وفي وجه رسول الله مباشرةً، وهذا بمثابة إعلان الحرب.
  • ومنها: الاستهزاء بشعائر المسلمين، قال تعالى: ﴿وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً﴾[1]
  • ومنها: الفساد في الأرض، قال تعالى: ﴿وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾[2].

ومثل هذا كافٍ في إعلان الحرب عليهم للحفاظ على الأمن في المدينة.  

وما يصوره بعض المستشرقين من أن أسباب جلاءِ بني قينقاع ماديةٌ، تتصل بحال المسلمين وما كانوا عليه من فقر وحاجة وقلة مال، وما كان عليه يهود بني قينقاع من غنى وثراء. 

فمثل هؤلاء لا يستندون في دعواهم على أي وثيقة تاريخية، بل يعتمدون في تفسير الأحداث على مبدأ التوسم الذاتي. 

ثانياً: استجابة النبي عليه الصلاة والسلام لابن أُبيّ في إخلاء سبيل بني قينقاع، كان حفاظاً على الجبهة الداخلية من التصدع، وخوفاً من أن ينتهي الأمرُ بين المسلمين والمنافقين إلى مواجهاتِ علنية، مما ليس فيه مصلحة للإسلام والمسلمين في تلك المرحلة، بل ملاينتهم قد تكون دافعاً لإيمان بعضهم، وفي الوقت نفسه يعتبر إجلاؤهم ضربةً معنويةً لغيرهم من يهود المدينة، كذلك يعتبر إضعافاً للمنافقين المتحالفين معهم.

ثالثاً: نفاق عبد الله بن أبيّ أوضح من أن يحتاج إلى دليل، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامله على أنه مسلم، وأجابه إلى طلبه بعدم قتل اليهود.

وقد أجمع العلماء على أن المنافق إنما يعامل في الدنيا على أنه مسلم، وإن كان نفاقه مقطوعاً به، قال رسول الله: {إنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم}[3]. 

والحكمة في ذلك أن تظلّ العدالة في مأمن من التلاعب؛ إذ ربما اتّخذ بعض الحكام من حجية الأدلة الاستنتاجية ذريعة إلى الإضرار ببعض الناس بدون حق، وأما أمر بواطنهم فمرده إلى الله يحاسبهم عليه يوم القيامة.

رابعاً: نهى الله عن موالاة غير المسلمين؛ بحيث يُشاورونهم في القضايا الحساسة، ويفشون إليهم أسرارهم، وَيُسْنِدُونَ إِلَيْهِمْ أُمُورَهُم، لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾[4]

ولا يستثنى من هذا الحكم إلا إذا كان المسلمون في حالة من الضعف تقتضي المداراة. قال تعالى: ﴿لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ، إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً﴾[5]

 وهذا لا يعني مقاطعتهم مقاطعة تامَّة إذا كانوا غير محاربين، أو معروفين بالعداء للمسلمين ولا تعني المَنْع من بِرِّهم والإحسان إليهم، وقبول هديَّتهم، وعيادتهم إذا مرضوا، ومعاملتهم بيعًا وشراءً وقرضًا وإقراضًا وإجارةً وغيرَها؛ من غير مُشاركة في محرَّم أو معاونة عليه، قال تعالى: ﴿لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾[6] 

والنهي عن موالاة الكافرين لا يعني التساهل في تحقيق العدالة معهم واحترام المعاهدات بيننا وبينهم. وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا، اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى﴾[7]

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]: المائدة: 58.

[2]: المائدة: 64.

[3] رواه البخاري.

[4]: المائدة: 51.

[5]: آل عمران: 28.

[6]: الممتحنة: 8.

[7]: المائدة: 2.