سلسلة مقالات فقه السيرة النبوية| المقالة الثلاثون| مرحلة الحرب الدفاعية

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد. 

حين هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة – وكانت قوى الكفر تطارده وأصحابَه في كل مكان، ورأى المجتمعات التي من حوله لا تحترم إلا الأقوياء، وأُنزل عليه قولُه تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ}[1].
أدرك النبي عليه الصلاة والسلام أن الحرب بين قوى الكفر وبين المسلمين قائمة لامحالة؛ عندها أخذ يتأهّب لكلّ طارئ، ويجهز القوة لتأديب المجرمين. 

وما كانت حروب النبي عليه الصلاة والسلام في هذه المرحلة إلا لحماية الحق، وردّ المظالم، وقمع العدوان.

ولما نزل قول الله سبحانه: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}[2]، أخذ النبي صلى الله عليه وسلم يرسل سراياه المسلّحة تجوس خلال الصحراء، وتعبر طرق القوافل المارة بين مكة والشام، وتستطلع أحوال القبائل؛ لإشعار مشركي يثرب ويهودِها وأعراب البادية من حولها بأن المسلمين أقوياء؛ لثني عزمهم عن التفكير بمهاجمة المدينة؛ فَحُفِظَت هيبةُ المسلمين، وأُلقي الرعب في قلوب المتربصين.

وكان إرسال هذه السرايا بمثابة رسائلِ إنذارٍ لقريش؛ بأن المسلمين أصبحوا قوة يحسب لها ألف حساب. 

ومن أهدافها تَحَسُّسُ أخبار الأعداء، وكشفُ نواياهم، وقطعُ الطرق على تجارتهم، وجمع المعلومات عن العدو؛ حتى لا تؤخذ المدينة على حين غرة، ولتكون بمثابة حربِ أعصابٍ ضدَّ قريش، التي أخذت تخاف على قوافلها التجارية.

ثم جاء الحدث المدوي، الذي هزّ الدنيا بأسرها غزوة بدر الكبرى، التي تنطوي على دروس جليلة، نجملها فيما يلي:

1- كان الدافع الأصلي لغزوة بدر الاستيلاءَ على قافلة قريش، وفي هذا دليل على أن عامة ممتلكات الحربيين تعدّ بالنسبة للمسلمين أموالاً غير محترمة باتفاق عامة الفقهاء.

2- استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أكثر من مرة في هذه الغزوة في أمور لا نص فيها ملزم؛ مما يدل على أن المشورة أساس تشريعي مهم لا يجوز إهماله، واتفق عامة الفقهاء على أن الشورى وإن كانت مشروعة لكنها ليست بملزمة، كل ما في المسألة أن الحاكم يستنير بآراء أهل الرأي؛ للوصول لما يراه أجدى وأجدر. 

3- ولما استشار النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه في لقاء العدو أحبّ أن يعرف رأي الأنصار؛ لأنهم بايعوه على الدفاع عنه في المدينة؛ فليسوا حسب البيعة بملزمين أن يقاتلوا معه خارج المدينة، حتى قال سعد بن معاذ (فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك)[3] عندها أدرك النبي عليه الصلاة والسلام أنهم لا يقفون عند بنود البيعة، بل ينطلقون من بيعة الله على الدفاع عن دينه في كل الظروف.

4- أشار الحبّاب بن المنذر على النبي صلى الله عليه وسلم أن ينتقل بالجيش من مكانه – بعد أن عرف أنه ليس فيه أمر من الله سبحانه – إلى مكان أفضل، فاستجاب النبي لذلك؛ مما يدل على أن تصرفات النّبي صلى الله عليه وسلم منها ما هو تشريع نُلْزَمُ به، ومنها ما يفعله من منطلق بشريته فلسنا بملزمين به.

5- كان النبي واثقاً من نصر الله، ومع ذلك كان يلحّ بالدعاء؛ ليبين لنا أن الدعاء وظيفة العبودية، التي خُلق من أجلها الإنسان، وأنه مهم جداً في تحقيق النصر.

6- من المعجزات الإلهية إمداد الله سبحانه وتعالى المسلمين بالملائكة، يقاتلون معهم. ولا يجوز تأويله بالمدد الروحي أو القوة المعنوية؛ لأن الله تعالى ضبط الملائكة بعدد محدود وهو الألف. وليس لنزول الملائكة أيُّ تأثير في تحقيق النصر؛ لأنه {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}[4].

7- استشار النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الأسرى، فأشار عمر بقتلهم، وأشار أبو بكر بفدائهم، فمال النبي صلى الله عليه وسلم إلى رأي أبي بكر، ثم نزل القرآن يؤيد قول عمر؛ فاستدل جمهور علماء الأصول بهذه الواقعة على أنه يجوز للنبي أن يجتهد، وبناء عليه يجوز عليه أن يخطئ إلا أنه لا يقرّ عليه، بل ينبّه عليه سريعاً. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]: سورة الأنفال، 65.

[2]: سورة الأنفال، 60.

[3]: الروض الأنف، 92/5.

[4]: الأنفال، 10.