سلسلة مقالات فقه السيرة النبوية | المقالة السابعة والخمسون والأخيرة | شكوى الرّسولﷺ ولحاقه بالرّفيق الأعلى

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد.

عاد النبي ﷺ من حجة الوداع، فجهز جيشاً لغزو الروم، وأمَّرَ عليه أسامة بن زيد، واشتد بالنبي ﷺ المرض، فلم يغادر أسامة بالجيش؛ حتى يطمئن على صحة رسول الله ﷺ. ولما بَرَّحَ به المرض، أَذِنَ له أزواجُه أن يُمَرَّضَ عند عائشة، وقبل الوفاة بخمسة أيام قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ، فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ… قَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ لاَ تَبْكِ، إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا مِنْ أُمَّتِي لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ» [1]. وفيه دليل على أن المرشح لخلافة الرسول أبو بكر.

ولكي يلقى ربه ولا أحد يطلبه بحق قال: «من شتمت له عرضاً، فهذا عرضي فليستقد منه، ومن ضربت له ظهراً، فهذا ظهري فليستقد منه، ومن أخذت له مالاً، فهذا مالي فليأخذ منه… وإن أحبكم إلي من أخذ حقاً إن كان له، أو حَلَّلَنِي فلقيتُ ربي، وأنا طّيِّبُ النفس» [2].

ثم وَصَّى بالأنصار فقَالَ: «أُوصِيكُمْ بِالأَنْصَارِ، فَإِنَّهُمْ كَرِشِي وَعَيْبَتِي، (أي بطانتي وموضعُ سري) وَقَدْ قَضَوُا الَّذِي عَلَيْهِمْ، وَبَقِيَ الَّذِي لَهُمْ، فَاقْبَلُوا مِنْ مُحْسِنِهِمْ، وَتَجَاوَزُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ» [3]، إشارة إلى أن الخلافة ليس للأنصار فيها نصيب، وإلا لما وصى بهم.

ثم صلى بالمسلمين صلاة المغرب، ولم يستطع أن يصلي بهم العشاء، فَقَالَ: «مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ، فَأمهم أبو بكر، (فَوَجَدَ النَّبِيُّ مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً… فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ إِلَى جَنْبِ أَبِي بَكْرٍ فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَأْتَمُّ بِالنَّبِيِّ وَالنَّاسُ يَأْتَمُّونَ بِأَبِي بَكْرٍ» [4]. وفيه إشارة إلى إمامة أبي بكر الكبرى بتقديمه للإمامة الصغرى.

وحتى يخرج من الدنيا خفيفاً أعتق قبل وفاته بيوم مواليه، وأخرج سبعة دنانير كانت عنده، ووهب للمسلمين سلاحه.

وفي يوم وفاته كان أبو بكر يصلي الفجر بالناس، فألقى النبي ﷺ على المصلين نظرة الوداع الأخيرة، فتبسم، ثم دخل الحجرة، وأرخى الستر). «ولَمَّا ثَقُلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ يَتَغَشَّاهُ، فَقَالَتْ فَاطِمَةُ: وَاكَرْبَ أَبَاهُ، فَقَالَ لَهَا: «لَيْسَ عَلَى أَبِيكِ كَرْبٌ بَعْدَ اليَوْمِ [5]. وَكان (بَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ فِيهَا مَاءٌ، فَجَعَلَ يُدْخِلُ يَدَيْهِ فِي المَاءِ فَيَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ، يَقُولُ: «لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ» ثُمَّ نَصَبَ يَدَهُ، فَجَعَلَ يَقُولُ: «فِي الرَّفِيقِ الأَعْلَى» حَتَّى قُبِضَ وَمَالَتْ يَدُهُ» [6]. ورأسه بين سَحْرِ وَنَحْرِ عائشة.

وشاع خبر وفاته ﷺ، فاضطرب المسلمون، فمنهم من سَقَطَ على الأرض، ولم تحمله رجلاه، ومنهم من عُقِدَ لسانه، ومنهم من هام على وجهه ذاهلاً، ومنهم من لم يصدق، لكنَّ رجل المواقف الصعبة أبا بكر ظل رابط الجأش قوي العزيمة، فهدأ النفوس، وثبّت الناس، وذلك بعد أن جاء فكَشَفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَبَّلَهُ، قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا [7]، فخرج (فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: أَلا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لاَ يَمُوتُ [8]، وَقَالَ: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) [9].

واجتمع أهل الحل والعقد في سقيفة بني ساعدة، فاختاروا – أتقاهم، وأنقاهم، وأفضلهم، وأشجعهم، وأكرمهم، وأحبهم إلى نبيهم – أبا بكر خليفة، ثم غسلوا النبي ﷺ في قميصه، وكفنوه بثلاثة أثواب يمانية، ليس فيها قميص ولا عمامة، وصلوا عليه فرادى، ودفنوه في حجرة عائشة، ثم أهالوا عليه التراب، وطويت أهم صفحة من صفحات تاريخ البشرية.

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] رواه البخاري، 466.

[2] مصنف عبد الرزاق، 18043.  

[3] رواه البخاري، 3588.

[4] رواه أحمد في المسند، 26400.

[5] رواه البخاري، 4462.

[6] رواه البخاري، 4449

[7] رواه البخاري، 3667.

[8] رواه البخاري،3668.

[9] آل عمران، 144.