سلسلة مقالات فقه السيرة النبوية| المقالة السادسة والخمسون| حجة الوداع

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد.

في ذِي الْقَعْدَةِ مِنَ السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ لِلْهِجْرَةِ أُذِّنَ فِي النَّاسِ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ حَاجٌّ هَذَا الْعَامَ، فَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَأْتِيَ رَاكِبًا أَوْ رَاجِلًا إِلَّا قَدِمَ، كُلُّهُمْ يَلْتَمِسُ أَنْ يَأْتَمَّ بِرَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ويتشرف بصحبته، حتى تجاوز عددهم مائةَ ألف. فخرج النبي عليه الصلاة والسلام لخمس بَقَيْن من ذي القعدة، حَتَّى إِذَا أَتَى ذَا الْحُلَيْفَةِ صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ رَكِبَ ناقته، حَتَّى إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ عَلَى الْبَيْدَاءِ، أَهَلَّ هو ومن معه بالحج، ولَبَّوْا، ثم دخل مكة من طريق كَداءَ، ودخل المسجد من باب بني شيبة، فلما رأى البيت قال: «اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتعظيماً وتكريماً ومهابةً، وزد من عظَّمه ممن حجَّه واعتمره تشريفاً وتكريماً ومهابةً وتعظيماً وبراً) [1]. حَتَّى إِذَا أَتى الْبَيْتَ، اسْتَلَمَ الرُّكْنَ، فَطَافَ سَبْعًا؛ رَمَلَ ثَلَاثًا، وَمَشَى أَرْبَعاً، ثُمَّ أتى مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ فَقَرَأَ: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبراهيمَ مُصَلَّى)، فَصَلَّى خلف المقام رَكْعَتَيْنِ، قَرَأَ فيهما: (قُلْ هوَ اللَّهُ أَحَدٌ، وقُلْ يَا أيُّها الكافِرونَ) [2]. ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الرُّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ توجه إِلَى الصَّفَا، فقَرَأَ: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شعائِرِ اللَّهِ) [3]، وقال: أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ، فَرَقِيَ عَلَيْهِ حَتَّى رَأَى الْبَيْتَ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَوَحَّدَ اللَّهَ، وَكَبَّرَهُ، ودَعَاه، ثُمَّ مَشَى إِلَى الْمَرْوَةِ، فلما صار فِي بَطْنِ الْوَادِي سَعَى، فلما صعد الْمَرْوَةَ، فَعَلَ عَلَيها كَمَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا، حَتَّى إِذَا كَانَ آخِرُ طَوَافٍ عَلَى الْمَرْوَةِ قَالَ للناس: (لَوْ أَنِّي اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ، لَمْ أسق الهَدْيَ، وجعلتُها عُمْرةً؛ فمنْ كانَ مِنْكُم لَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ، فَلْيَحِلَّ، وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً) [4]. وَقَدِمَ عَلِيٌّ مِنَ الْيَمَنِ، فَقَالَ لَهُ النبي: (مَاذَا قُلْتَ حِينَ فَرَضْتَ الْحَجَّ)؟ قَالَ: قُلْتُ: اللهُمَّ إِنِّي أُهِلُّ بِمَا أهلَّ بهِ رسولُكَ. قَالَ: (فَإِنَّ مَعِي الْهَدْيَ؛ فَلَا تَحِلَّ)» [5].

وحَلَّ النَّاسُ كُلُّهُمْ، وَقَصَّرُوا إِلَّا النَّبِيَّ، وَمَنْ كَانَ مَعَه هَدْيٌ، فَلمَا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ، تَوَجَّهُوا إِلَى مِنىً، فَأَهَلُّوا بِالْحَجِّ، وصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ، وَالْعَصْرَ، وَالْمَغْرِبَ، وَالْعِشَاءَ، وَالْفَجْرَ، فلما طَلَعَتِ الشَّمْسُ، أَمَرَ بِقُبَّةٍ مِنْ شَعَرٍ، تُضْرَبُ لَهُ بِنَمِرَةَ، فَسَارَ حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ، فَنَزَلَ بِقبته، فلما زَاغَتِ الشَّمْسُ، أَتَى بَطْنَ الْوَادِي على راحلته، فَخَطَبَ النَّاسَ: فعظّم حرمة الدماء والأموال، ووضع خبث الجاهلية تحت قدمه منها الأخذ بالثأر، وأكل الربا، وحذر من التلاعب بالأشهر تقديماً وتأخيراً، وتحليلاً وتحريماً، وجعل السَنَة اثني عشر شهراً، منها أربعة حرم، ووصى بالنساء والأرقاء خيراً، وأمر بالتمسك بالكتاب والسُنّة حتى لا يضلوا، وأوصى بطاعة الحاكم، ما أقام فيهم حكم الله، وحذّر من قتال المسلم أخاه المسلم، وحَمَّلَ المسلمين مسؤولية التبليغ والدعوة، ثم قال: هل بلغت قالوا نعم؟ قال: اللهم اشهد ثلاثاً.

«ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ وأَقَامَ، فَصَلَّى الظُّهْرَ والْعَصْرَ جمعاً وقصراً دون نافلة، ثُمَّ رَكِبَ حَتَّى أَتَى الْمَوْقِفَ، فاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، يهلل، ويكبر، ويبتهل، حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ فأفاض إلى الْمُزْدَلِفَةَ، فَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعَشَاءَ بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ، وَلَمْ يتنفل بَيْنَهُمَا، ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ، فَصَلَّى الْفَجْرَ حِينَ تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبْحُ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، ثُمَّ أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، يدعو، وَيُكَبِّرُ، وَيُهَلِّلُ، وَيُوَحِّدُ، حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا، فَدَفَعَ قَبْلَ طلوعِ الشَّمْسِ حَتَّى أَتَى بَطْنَ مُحَسِّرٍ، فَحَرَّكَ قَلِيلاً، ثُمَّ أتى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى، فَرَمَاهَا مِنْ بَطْنِ الْوَادِي بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ مِثْلَ حَصَى الْخَذْفِ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْمَنْحَرِ، فَنَحَرَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بَدَنَةً بِيَدِهِ، ثُمَّ أَعْطَى عَلِيًّا فَأَتَمَّهَا مائة، وأكلا من لحومها، ثم ما سئل عن شيءٍ قُدِّمَ ولا أُخِّرَ إلا قال: (افعلْ ولا حرج)» [6].

ثُمَّ أَفَاضَ إِلَى الْبَيْتِ، فَصَلَّى الظُّهْرَ، وشَرِبَ مِنْ ماء زمزم، ثم عاد إلى المدينة، يواصل مسيرته في الجهاد، والدعوة إلى الله.

وصلى الله، وسلم، وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

_____________________________

[1]: البيهقي في سننه الكبرى، 9213.

[2]: رواه مسلم، 147/ 1218.

[3]: سورة البقرة، 158.

[4]: رواه مسلم، 147/ 1218.

[5]: رواه مسلم، 147/ 1218.

[6]: رواه البخاري، 1736، ومسلم، 1306.