سلسلة مقالات فقه السيرة النبوية| المقالة الخامسة والخمسون| بعوث رسول الله إلى الناس لتعليم الإسلام

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد.  

ما أرسل الله من رسولٍ إلا دعا قومه إلى عبادةِ الله وحدَه، وخلعِ ما سواه من الآلهة المزعومة، قال تعالى: ﴿ولقد بعثنا في كلّ أمّة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت﴾ [1].

لذا لما كُسِرَتْ رَبَاعِيَةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشُجَّ وجهُهُ يوم أحد، قِيلَ: «يَا رَسُولَ اللهِ، ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، قَالَ: إنّي لم أُبْعَثْ لَعَّاناً؛ ولكن بُعِثتُ داعياً ورحمة» [2].

وقَالَ: «يَا عَلِيُّ، لِأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ عَلَى يَدَيْكَ رَجُلًا خَيْرٌ لَكَ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ» [3]، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم هادياً، ولم يبعثه جابياً) [4].

وكانت الدعوةُ إلى الله هي الأساس في تثبيت الإيمان في قلوب الشعوب الداخلة في الإسلام من جديد؛ لذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل خيرة أهل العلم من أصحابه على شكل مجموعات إلى القبائل، مع ما يكون في ذلك من مخاطر على حياتهم، كما حصل لأصحاب الرجيع بين عسفان ومكة، وكانوا عشرة من كبار الدعاة، تداعى عليهم قريب من مائتي رجل من بني لَحيان، فقتلوهم، وأسروا اثنين منهم، فباعوهما لأهل مكة؛ ليقتلوهما بمن قتل منهم في بدر.

ولكنَّ هذا المصاب الجلل، لم يمنع الرسول صلى الله عليه وسلم من مواصلة إرسال الدعاة إلى الله مهما بلغت التضحيات. فلم يمضِ وقتٌ طويلٌ، حتى أرسل سبعين ممن يسمون بالقراء إلى أهل نجد، بجوار عامر بن مالك؛ زعيم بني عامر، فلما كانوا على بئر معونة، استصرخ عليهم عامر بن الطفيل قبائل رِعْلٍ، وَذَكْوَانَ، وعُصَيَّةَ، وَبَنِي لَحْيَانَ، فقتلوهم عن آخرهم، قال أنس بن مالك: (ما رأيت رسول الله وَجَدَ على شيءٍ قَطُّ ما وَجَدَ على أصحاب سرية بئر معونة، فمكث شهراً يدعو على الذين أصابوهم في قنوت صلاة الغداة) [5].

بعد هاتين الحادثتين المروعتين صار النبي صلى الله عليه وسلم يرسل الدعاة مُعَلِّمينَ، ولكن ضِمْنَ سرايا عسكرية، يحملون القرآن بيدٍ، والسيف بيدٍ، والظروفُ تحدد ما ينبغي استعمالُه.

فكانت بعثة أبي موسى الأشعري، ومعاذِ بن جبل إلى اليمن بصحبة سريةٍ مسلحةٍ للتعليم والهداية، وإن اضطروا إلى القتال قاتلوا، وأوصاهما قائلاً: «يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا» [5].

وفي هذه البعثات دليل على أنه يجب على المسلمين في كل عصر القيامُ بواجب الدعوة إلى الله، حتى وإن دعا الأمر للسفر إلى البلاد القريبة أو البعيدة، وقد أجمع الأئمة الأربعة على أن القيام بحق هذه الدعوة فرض كفاية على كل مكلف من المسلمين حتى النساء على الصحيح، ولا تسقط المسؤولية إلا بقيام طائفة تقع موقع الكفاية بشؤون الدعوة في كل بلد من بلاد الإسلام، وإلا فجميع أهل تلك البلدان آثمون.

ونستفيد من الوصية التي وجهها رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما بعض الآداب التي يجب أن يتحلى بها الداعية في أثناء دعوته.

  •  منها: أن يُغَلِّبَ جانبَ التيسيرِ على جانبِ التعسير.
  • ومنها: أن يعتمد على التبشير أكثر من الإنذار والتنفير، بشرط ألا يتجاوز التيسير والتبشير حدود ما هو مشروع؛ بتبديل بعض الأحكام، أو التلاعب بمفاهيم الإسلام، وإباحة الحرام.

ولما كان معاذ رضي الله عنه متسماً بصفة الداعية، وصفة الإمارة، حذره النبي صلى الله عليه وسلم من الظلم؛ سيما ما يتعلق بأخذ أموال الناس بغير حق، فقال: «فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَها وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ» [7].

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.  

____________________________________

[1]:سورة النحل، 36.

[2]: أشرف الوسائل إلى فهم الشّمائل لابن حجر الهيتمي 1/ 502.

[3]: الحاكم في المستدرك، 6537.

[4]: تثبيت دلائل النبوة 2/ 334.

[5]: رواه البخاري،3870. وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح.

[6]: رواه البخاري، 3038.  ومسلم، 7 – (1733).

[7]: رواه البخاري، 1496، ومسلم، 29- (29-19).