سلسلة مقالات فقه السيرة النبوية| المقالة الرابعة والخمسون| وفد عدي بن حاتم الطائي

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد.

عَرَفَ أبو طريف عدي بن حاتم منذ نعومة أظفاره أنه سيخلف أباه حاتماً في زعامة قبيلة طيِّء، فاتخذه قدوة له في الجود، والفروسية، والعفة، والتسامح، والنأي بنفسه عن الشر، حتى ساد القبيلة من بعد أبيه دون منازع، وكان أفراد القبيلة يتسابقون لخدمته وطاعته، ويؤدون له عن رغبة ربع ما يغنمونه في حروبهم، فكان واسع الثراء، مما ساعده على نيل الشرف والسؤدد، واعتنق الرَّكُوسِيَّة. (وهي عقيدة بين النصرانية والصابئة).

ولما صدع النبي محمد صلى الله عليه وسلم بدعوة الحق، ودانت له الجزيرة العربية، سمع عديٌّ أن الإسلام يقضي على الوثنية، ويلغي الولاء للقبيلة، ويجعل الولاء والطاعة لله وحده، ويزيل من حياة الناس التفاخر بالمال، والجاه، والنسب، ويصبح الجميع في دين الله سواسية، لا فضل فيهم لأحد على أحد إلا بالتقوى والعمل الصالح، فأضحى يرى في محمد زعيماً له طموحات وأطماع، تسعى للقضاء على كل الزعامات القبلية في بلاد العرب؛ وهذا حتماً سيفضي إلى ضياعِ ملكه، فأبغض النبي وعاداه أشدَّ العداوة؛ حفاظاً على مصالحه ومكتسباته.

ولما أَرْسَلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم سريةً إلى قبيلة طيِّءٍ، هرب عديٌّ مع أهله إلى الشام، مخلفاً وراءه أخته سَفَّانَة، فأسرها المسلمون، ثم مَنَّ عليها الرسول؛ فأطلق سراحها، وكساها، وحملها على ناقة، وأعطاها نفقة تكفيها، ولم يسمح لها بالخروج إلا مع من تثق به؛ كي يُبْلِغَهَا أهلها بسلام. فلما حطت رحالها في بيت أخيها، استطاعت برجاحة عقلها أن تقنع أخاها بلقاء رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ فشد الرحال من فوره إليه من غير عهد ولا عقد.

فلما دخل على النبي في المسجد، قَامَ إليه رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَانْطَلَقَ به إلَى بَيْتِهِ، فاستوقفته عجوز فانية؛ تُكَلّمُهُ فِي حَاجَتِهَا، فَوَقَفَ لَهَا طَوِيلًا؛ فقَالَ عدي فِي نَفْسِه: وَاَللهِ مَا هَذَا بِمَلِكٍ!!

أجل، فما أبعد الطامعَ بالملك عن الصبر على مثل هذه الوقفة الطويلة مع مثل هذه العجوز الفانية، ولئن صابر نفسه مرة فَتَصَنَّعَ لذلك، فما أسرع ما تظهر دلائل المصانعة من تبرم وتأفف في مواقف أخرى.

أما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كانت هذه سجيتَه وطبيعتَه في كل شؤونه وأحواله إلى آخر حياته.

وتابع الرسول سيره بعدي إلى بيته، وكان عدي يتوقع أنه سيدخل على قصر مشيد، يليق بمقام ملكٍ أَرْعَبَ كسرى وقيصر، لكنه فوجئ ببيتٍ متواضعٍ كبيوت الفقراء، ليس فيه إلا وسادة واحدة حشوها ليف، آثره النبي عليه الصلاة والسلام بالقعود عليها، وقعد هو على الأرض، وظل صلى الله عليه وسلم زاهداً في الدنيا لم يغير ولم يبدل إلى أن لحق بربه، فأي سرّ يمسكه على هذه الحال غيرُ سرّ النبوة التي أكرمه الله بها؟!

ثم دعا النبي عَدِيًّا إلى الإسلام بعد تلك السلسلة من المقدمات، التي تَأَلَّفَ بها قلبَه، وأَطْفَأَ ما في نفسه من نيران الكراهية والحقد، واسْتَدْرَجَه بالقدوم عليه حين طَمْأَنَهُ بالعفو عنه بقوله: «إني لأرجو أن يجعل الله يده في يدي» [1]، ولما قَدِمَ دَعَاهُ الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بيته، وأولاه من الاحترام والإكرام ما هو به جدير، يضاف إلى ذلك ما رآه عدي في بيت الرسول، وفي طريقه إليه، وفي حديثه معه من آيات النبوة ما أقنعه برسالته، فأسلم وجهه لله، وأخذ مكانه بين صفوف المجاهدين في حروب الردة،

ثم في فتح بلاد فارس؛ ليرى بعينه ما أخبره به الرسول عليه أفضل الصلاة  من أمور غيبية:

  •  منها: اغتنام كنوز كسرى بن هرمز.
  • ومنها: انتشار الأمن في بلاد الإسلام.
  • ومنها: فيضان المال، وقد شاهد الأولى والثانية، وأقسم لتكونن الثالثة! وقد حصلت في خلافة عمر بن عبد العزيز رحمه الله.

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

______________________________

[1]: سنن الترمذي 2953.