سلسلة مقالات فقه السيرة النبوية| المقالة الثالثة والخمسون| وفد نجران

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد. 

أرسل النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى أهل (نجران) كتاباً جاء فيه: «باسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، أما بعد: فإنّي أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد، وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد، فإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتم فقد آذنتكم بحرب، والسّلام» [1].

فلما وصل الكتاب إلى أسقف نجران، ضرب بالنَّاقُوسِ، فَاجْتَمَعَ أَهْلُ الْوَادِي الذي يضم ثَلَاثاً وَسَبْعينَ قَرْيَةً، فَقَرَأَ الأسقف الكِتَابَ عليهم، فَاجْتَمَعَ رأيهم عَلَى أَنْ يَبْعَثُوا وفداً إلى المدينة يأتيهم بالخَبَرِ، فَانْطَلَقَ الْوَفْدُ، فلما شارفوا المدينة لبسوا أردية الكهنوت الفاخرة، وتحلّوا بالذّهب، وجاؤوا يخبّون في الحرير، فَسَلمُوا عَلَى النبي، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِمُ السَّلَامَ، ولَمْ يُكَلِّمْهُمْ طيلة يومه حتى يغيروا من زيهم، ففعلوا، ثُمَّ سَاءَلَهُمْ، وَسَاءَلُوهُ حَتَّى قَالُوا لَهُ: مَا تَقُولُ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا عِنْدِي فِيهِ شَيْءٌ يَوْمِي هَذَا، فَأَقِيمُوا حَتَّى أُخْبِرَكُمَا بِمَا يُقَالُ فِي عِيسَى» [2]. فَأَصْبَحَ الْغَدُ وَقَدْ أُنزلَت هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [3].

أي: كمثل آدم في خروج خلقه عن مألوف العادة؛ فآدم عليه السلام خلقه الله بلا أب ولا أم، ولم يقل أحد إنه ابن الله؛ فمن الأولى ألا يقال ذلك في عيسى عليه السلام، فلم يُقِرُّوا بِذَلِكَ، فدعاهم للمباهلة التي أمره الله بها بقوله: ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ [4]، فَقَالَ صاحب الرأي فيهم: إِنْ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ نَبِيًّا مُرْسَلًا فَلَاعَنَّاهُ، فَلَا يَبْقَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِنَّا شَعْرٌ وَلَا ظُفُرٌ إِلَّا هَلَكَ، فَقَالوا للنبي قبلنا بما تحكم به، «فصالحهم عَلَى ألفي حلة، ألفٍ فِي رجب، وألفٍ فِي صفر، لا يَقِلُّ وزن الحلة على أوقية، وعلى عاريةِ ثلاثين درعاً، وثلاثين رمحاً، وثلاثين بعيراً، وثلاثين فرساً، إن كَانَ باليمن كَيْدٌ، ولنجرانَ وحاشيتِهم جوارُ اللَّه، وذمةُ محمد النبي رسول الله، على أنفسهم، وملتهم، وأرضهم، وأموالهم، وغائبهم، وشاهدهم، وبِيَعِهِم» [5].

(فشدوا رحالهم بالكتاب إلى نجران، فتلقاهم أكبر أساقفتهم أَبُو حَارِثَةَ بْنُ عَلْقَمَةَ، الذي أغدقت الروم عليه الأموال؛ تكريماً له لنشاطه في الدعوة إلى النصرانية، تلقاهم علَى بَغْلَةٍ لَهُ فَعَثَرَتْ به، فقال أخوه كُوزُ بْنُ عَلْقَمَةَ: وكان معه، تَعِسَ الْأَبْعَدُ، يُرِيدُ رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ لَهُ أَبُو حَارِثَةَ: بَلْ أَنْتَ تَعِسْتَ! فَقَالَ: وَلِمَ يَا أَخِي؟ قَالَ: وَاَللَّهِ إنَّهُ لَلنَّبِيُّ الَّذِي كُنَّا نَنْتَظِرُ، فَقَالَ لَهُ كُوزٌ: مَا يَمْنَعُكَ مِنْهُ وَأَنْتَ تَعْلَمُ هَذَا؟ قَالَ: مَا صَنَعَ بِنَا هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ، شَرَّفُونَا وَمَوَّلُونَا وَأَكْرَمُونَا، وَقَدْ أَبَوْا إلَّا خِلَافَهُ، فَلَوْ فَعَلْتُ نَزَعُوا مِنّا كُلّ مَا تَرَى) [6].

فأتى أخوه المدينة وأَسْلَمَ. فحبُّ الدنيا منع أسقفَ نجرانَ من الإسلام، وحُبُّ الزعامة والملك منع هرقل، وتقليدُ الآباء منع أبا طالب، والحسدُ منع اليهود من الإسلام.

وفي قصة أهل نجران فوائد كثيرة:

  •   منها: أن مجرد إقرار الكافر بالنبوة لا يدخله في الإسلام، بل لابد من الإذعان والنطق بالشهادتين.
  • ومنها: جواز مجادلة أهل الكتاب، وفي نَسْخِهَا خلاف، فمنهم: من قال: نُسِخَتْ بآية السيف، والأصح عدم نسخها، وفيها مشروعية مباهلة المخالف إذا أصر بعد ظهور الحجة، وفيها مصالحة أهل الذمة على ما يراه الإمام من أصناف المال.

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

______________________________

[1]: السيرة النبوية لابن كثير.

[2]: دلائل النبوة، 5/ 387.

[3]: سورة آل عمران، 59.

[4]: سورة ال عمران، 61.

[5]: الطبقات لابن سعد، 1/ 267

[6]: السيرة النبوية لابن هشام، 1/ 573.