سلسلة مقالات فقه السيرة النبوية| المقالة الحادية والخمسون| أبو بكر أمير الحج

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد.

كان الحج إلى بيت الله الحرام مما ورثه العرب عن إبراهيم الخليل عليه السلام، إلا أنه امتزج بكثير من خرافات الجاهلية كالطواف بالبيت عراة، حتى غدا الحج من مظاهر الشرك أكثر من كونه عبادة قائمة على التوحيد.

فلما عاد النبي عليه الصلاة والسلام من غزوة تبوك، أمَّرَ أبا بكر على الحج؛ ليقيم بالمسلمين المناسك، فلما فصل عن المدينة، نزلت سورة براءة، تقضي مطالعها بأن «من كَانَ لَهُ عهد فَأَجَلُهُ إِلَى أَمَدِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ عهد بِالْكُلِّيَّةِ، أو له عهد مفتوح، يؤجلُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، ومن ثم فليس لهم إلا الإسلام، أو القتل. وبهذا تكون الآيات قد أجهزت على الوثنية، ولا مكان لأصنامهم بعد المهلة المضروبة لهم. فأرسل النبي علياً بهؤلاء الكلمات، ينادي أيام التشريق: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَلَا يَجْتَمِعُ مُسْلِمٌ وَمُشْرِكٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا، وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ، فَعَهْدُهُ إِلَى مُدَّتِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ فَأَجَلُهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ» [1]. وقد يحلو لبعض المغرضين أن يعترض على الإسلام عندما طارد الوثنية؛ بأنه خنق حريّة الرأي.

لكن من يعلم الويلات التي عاناها المسلمون من رعونات المشركين والسفهاء من أهل الكتاب، فإنه يَعذِرُهم.

إن وفاء الإسلام بالعهود بلغ حداً من الدقة والسمو لم تعرفه إلى اليوم أرقى المؤسسات الدولية، بينما اليهود لا يرون للمعاهدات حرمة، بل يستبيحون الحقوق المقررة لغيرهم، قال تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ [2].

بل بلغ من نبل الإسلام أن يؤخر نصرة المسلمين؛ لِأَجْلِ عهدٍ مع الكفار! قال تعالى: ﴿وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [3]. في الوقت الذي كان فيه المسلمون يبالغون في رعاية العهود، كان المشركون وأهل الكتاب يعاهدون، وهم يضمرون الغدر، وحين تواتيهم الفرص ينبذون عهدهم، فبنو النضير عندما خلوا برسول الله همّوا بقتله، وبنو قينقاع كشفوا عورة مسلمة، ولما انتصر لها مسلم قتلوه، وبنو قريظة شاركوا الأحزاب يوم الخندق، كما نقض المشركون صلح الحديبية، وعدا بعض أمراء نصارى الشام على سفير للنبي فقتله، مع أن العرف السائد أن السفراء لا تقتل! وبناء على اطراد هذه الحوادث ضد المسلمين؛ ثبت لهم أنهم يعامِلون بشراً بلا شرف؛ فأصبح لزاماً على المسلمين أن يُعَدِّلُوا مسلكهم، وأن يحسموا عهوداً لم يحترمها إلا الطرف المسلم؛ فنزلت سورة براءة في ظل هذا الواقع الأليم؛ لتضع حداً لألاعيب هؤلاء السفهاء المقززة، فقال تعالى: ﴿إنما المشركون نجس؛ فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا، وقال: ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ، وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ [4]. وتفي لأهل الوفاء بعهودهم إلى مدتهم، قال تعالى:﴿إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً، وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً، فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ [5].

أما المعاهَدون الذين يساكنوننا في بلادنا، ويشاطروننا الأفراح والأتراح، فإن حقوقهم محفوظة، والوفاء لهم واجب، وقد أوصى الإسلام بهم خيراً، وحذّر من الإساءة إليهم، قال رَسُولِ اللَّهِ: «أَلاَ مَنْ ظَلَمَ مُعَاهَدًا، أَوِ انْتَقَصَهُ، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ، فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» [6]. وقَالَ: «مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدًا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا» [7].

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

______________________________  

[1]: رواه البخاري، 48.

[2]: سورة آل عمران، 75.

[3]: سورة الأنفال، 72.

[4]: سورة البقرة، 191.

[5]: سورة التوبة، 4.

[6]: سنن أبي داود، 3054.

[7]: رواه البخاري، 6914.