سلسلة مقالات فقه السيرة النبوية| المقالة الخمسون| غزوة تبوك

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد.

لمّا فتح المسلمون مكة، وهزموا هوازن في حنين، دخل العرب في دين الله أفواجاً، وفي أقل من عام صار العرب حماة الإسلام، الذي مهمته في الحياة الدعوة إلى توحيد الله، ونبذُ الطواغيت، وإصلاح الفساد، وتقويم المعوج، ومطاردة الشر، وقمع الرذيلة، ومحق الظلم، وإقامة العدل، ونشر الفضيلة ومكارم الأخلاق، وتربية المجتمع على المنهج الذي ارتضاه الله سبحانه لعباده.

وكانت دولة الرومان تدرك خطر الإسلام على مصالحها، بل على مصيرها، فأعدّوا لتقويضه قبل أن يستفحل أمره عدتهم، وجمعوا الجموع، وأجلبوا معهم القبائل العربية الموالية لهم؛ يريدون غزو المدينة، فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرين والأنصار، واستنفر أهل مكة، وقبائل العرب، وخطب في الناس يحضهم على الجهاد بالنفس والمال، فبادر المسلمون يتنافسون في الإنفاق في سبيل الله، فجاء عثمان بألف دينار نثرها في حجره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يضر عثمان ما فعل بعدها [1]، وثلاثِمائة بعير بأحلاسها وأقتابها [2]، وخمسين فرساً مسرجة [3]!! وجاء عبد الرحمن بن عوف بمائتي أوقية من الفضة [4]، وجاء أبو بكر بكل ماله» [5]، وتصدقت النساء بكل ما استطعنه من حُلِيِّهِنَّ، وغيرهم وغيرهم كثير، فجهز رسول الله الجيش بما اجتمع لديه، وجاء البكاؤون يسألونه أن يحملهم، فقال: لا أجد ما أحملكم عليه، فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع؛ حزناً على ما فاتهم من شرف الإنفاق والجهاد، وراح المنافقون ينتحلون الأعذار، ويثبّطون غيرهم عن الخروج، وَتَوَافَدَ جندُ الله من كل صوب حتى ناف العدد على ثلاثين ألفَ مقاتل، ومعهم عشرةُ آلافِ فرس، واختار النبي لحمل اللواء الأعظم بطل الإسلام أبا بكر الصديق.

وقد شاء الله تعالى أن تكون غزوة تبوك في شدة الحر، وبُعْدِ الشقة، وشُحِّ المؤونة، وقلةِ الظهر، وقوة العدو، وطيب الثمار؛ ليميز الخبيث من الطيب؛ لذا قعد المنافقون مع القاعدين.

وطارت الأخبار إلى جموع الروم المحتشدة أن المسلمين قادمون إليهم بثلاثين ألف مقاتل، فاستحوذ عليهم الرعب، وهو جندي من جنود الله، فآثروا الانسحاب إلى داخل بلاد الشام، متحصّنين بحصونها المنيعة على المواجهة، حتى ولو كان في ذلك سقوط هيبة الدولة، وظهورها بصورة مخزية أمام العالم. وحين وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، لم يجد منهم أحداً، فتفرغ لنصارى العرب الموالين للروم، «فضرب الجزية على أهل أَيْلَةَ، ودُومَةَ الجندل، وأذرُح، وجَرباء، ومَقْنَا. وكان النبي عليه الصلاة والسلام يرى أن يتوغّل في عمق دولة الرومان، فأشار عليه عمر بْنُ الْخَطّابِ: بالرجوع حتى يُحْدِثَ اللهُ تعالى فِي ذَلِكَ أَمْرًا» [6]. فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن أمّن دولة الإسلام من الشمال، وأسقط هيبة الروم، وأظهر قوة الدولة الإسلامية على تحدي القوى العظمى في العالم، فبادرت القبائل العربية تفد إلى المدينة معلنة إسلامها؛ حتى سمي العام التاسع بعام الوفود. وما إن حط النبي صلى الله عليه وسلم رحاله في المدينة حتى جاء المخلفون من المنافقين يعتذرون إليه، ويحلفون الأيمان المغلظة أنهم كانوا معذورين، وهم كاذبون، فنزل القرآن يفضح دخائلهم، ويكذّب أقوالهم، ويتوعدهم بأسوأ المصير. وكان ممن تخلفوا ثلاثة من الصادقين، اعترفوا بخطئهم؛ معلنين توبتهم؛ فنُهي المسلمون عن كلامهم، ثم أُمروا باعتزال نسائهم، وكان منهم كعب بن مالك، يأتي فيسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يرد عليه السلام. فلما مضى على ذلك خمسون يوماً، تاب الله عليهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكعب: «أبشر بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمك» [7]؛ فسجد شكراً لله.

وفي ذلك دلالة على مشروعية الهجران لسبب ديني، وعدمِ وجوب ردّ السلام على من يستحق الهَجر، وأن سجود الشكر لله عبادة مشروعة.

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

________________________________________

[1] : رواه الترمذي في سننه، 3701. والإمام أحمد في مسنده، 20630.

[2]: رواه الترمذي، 3700. والإمام أحمد في المسند، 16696.

[3]: نور اليقين في سيرة سيد المرسلين، 1/ 218.

[4]: مغازي الواقدي، 3/ 991.

[5]: سنن أبي داود، 1680. وسنن الترمذي، 3675.

[6]: مغازي الواقدي، 3/ 1019.

[7]: السيرة النبوية لابن هشام، 2/ 536.