سلسلة مقالات فقه السيرة النبوية| المقالة التاسعة والأربعون| غزوة حنين (2)

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد.

لما هُزِمَتْ هوازنُ في حنين، وتحصن أكثر الفارين مع قائدهم مالكِ بنِ عوفٍ النصري في الطائف، ضرب المسلمون عليهم حصاراً شديداً، ولما طال الحصار، أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقطع أعناقهم، فسألوه أن يدعها لله والرحم، فتركها، وعمل على خلخلة الجبهة الداخلية، فنادى منادِيه: من خرج من عَبِيدِ ثقيف إلى المسلمين فهو حر، فخرج ثلاثة وعشرون رجلاً، فأَخْبَرُوا المسلمين أن المحاصَرين يملكون من الأغذية ما يكفيهم لأكثر من سنة. وكانت المنطقة المحيطة بالطائف قد صارت ضمن سيادة الدولة الإسلامية، ولم تعد الطائف مصدرَ خطرٍ على المسلمين؛ لذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرحيل، فقيل له: يا رسول الله، ادع الله على ثقيف، فقال الرحمة المهداة: «اللَّهُمَّ اهد ثقيفاً وات بهم» [1]. ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خبيراً بأدواء الرجال ودوائهم، قال: «أخبروا مالك بن عوف؛ زعيم هوازن أنه إن جاءني مسلماً رددت عليه أهله وماله، وأعطيته مائة من الإبل، فلمّا بلغ ذلك مالكاً، نزل من الحصن خفية، حتى أتى رسولَ الله بالجعرانة، فأسلم وأحرز ماله، واستعمله النبيُّ على من أسلم من هوازن» [2].

 وكان قد أمر الرسول عليه الصلاة والسلام أن تحبس غنائم حنين في الجعرانة، فانطلق إليها لتوزيعها، فأعطى أربعة أخماسها للمجاهدين، والخمس المتبقي، رأى النبي عليه الصلاو والسلام أن يتألف به ضعاف الإيمان من زعماء قريش، وزعماء القبائل المشاركة في المعركة، فأعطى كل واحد مائة بعير، ولم يعط الأنصار منها شيئاً، فقال بعضهم: لَقِيَ وَاللهِ رَسُولُ اللهِ قَوْمَهُ! فأُخْبِرَ رَسُولُ اللهِ بذلك، فقَامَ فِيهِمْ خَطِيبًا، فقَالَ: «يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَلَمْ آتِكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللهُ تَعَالَى؟ وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللهُ؟ وَأَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ؟ ” قَالُوا: بَلَى، ثُمَّ قَالَ: أَلَا تُجِيبُونِي يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ؟ فَقَالُوا: الْمَنُّ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، فَقَالَ: أَمَا وَاللهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَصَدَقْتُمْ وَصُدِّقْتُمْ: جِئْتَنَا طَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ، وَعَائِلًا فَآسَيْنَاكَ، وَخَائِفًا فَأَمَّنَّاكَ، وَمَخْذُولًا فَنَصَرْنَاكَ، فَقَالُوا: الْمَنُّ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، فَقَالَ أَفَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ إِلَى رِحَالِهِمْ بِالشَّاةِ، وَالْبَعِيرِ، وَتَذْهَبُونَ بِرَسُولِ اللهِ إِلَى رِحَالِكُمْ؟ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ النَّاسَ سَلَكُوا شِعْبًا، وَسَلَكَتِ الْأَنْصَارُ شِعْبًا، لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ، وَلَوْلَا الْهِجْرَةُ، لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الْأَنْصَارِ، اللهُمَّ ارْحَمِ الْأَنْصَارَ وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ، وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ»، فَبَكَى الْقَوْمُ حَتَّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ، وَقَالُوا: رَضِينَا بِاللهِ وَرَسُولِهِ قَسْمًا [3].

لله درك يا رسول الله، فهل سمع أحد في الدنيا في باب الاسترضاء أروع من هذه الكلمات، الجامعة بين الحق والصراحة، والرقة والاستعطاف، وتهدئة النفوس الثائرة، وتضرب على أوتار القلوب، وتهز المشاعر، وتستولي على الوجدان؟ دون وجود كلمةِ مداهنةٍ أو مخادعة، أو كلمةٍ مزوّقةٍ، دعت إليها المجاملة، أو عِدَةٍ كاذبة، وأماني براقة، كما يفعل دهاقينُ السياسة، وقوادُ الحروب، وزعماءُ الإصلاح، ولكنها النبوة التي تسمو عن كل هذه التفاهات، وتأبى إلا الإذعانَ للحق، والإقرارَ بالفضل لذويه.

ولما وزع النبي عليه الصلاة والسلام الغنائم والسبايا جاء وفد هوازن، فقالوا: يا رسول الله، إنما في الحظائر عماتك، وخالاتك، وحواضنك، اللاتي كن يكفلنك؛ لأن مرضعته حليمة من هوازن، فشفع لهم رسول الله عند أصحابه، فردوا إليهم سبيهم.

وفي غزوة حنين سئل الرسول عن العزل، فقال: «اصنعوا ما بدا لكم فما قضى الله فهو كائن فليس من كل الماء يكون الولد» [4]. فدل على جواز العزل، وعليه جمهور الأئمة، ولكنهم اشترطوا لذلك موافقة الزوجة، وحرَّمَ ابنُ حزم العزل مطلقاً، وزعم أن دليل الجمهور منسوخ.

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

___________________________________

[1] أخرجه التّرمذيّ، برقم 3942.

[2]: نور اليقين في سيرة سيد المرسلين، 1/ 212.

[3]: رواه أحمد في المسند، 11909.

[4]: رواه أحمد في المسند، 11456، 11730.